الاخبار الاخبار السياسية

شتاء أميركا الطويل

ظلّ دونالد ترامب يردِّد، على مدى الشهرين الفائتين، أن خللاً كبيراً في آليات التصويت منعَه من تبوّء منصبه لولاية ثانية. نظريّته هذه سلكت طريقها في صفوف مريدين كثر ضاقوا ذرعاً بالنظام الأميركي ومؤسّساته. ولكنها خلقت واقعاً مزدوجاً، يبدو تجاوزه شبه مستحيل في ظلّ الإدارة المقبلة التي باركت خطوة الحزب الديموقراطي للمضيّ قدماً في إطلاق إجراءات المحاكمة الثانية على وقع اقتحام مبنى الكونغرس العريق من قِبَل مَن باتوا يوصفون بـ»الغوغاء». واقعٌ فرضة الرئيس الأميركي المنصرف الذي اكتفى بإدانة الفعل، من دون التراجع عن السرديّة التي كانت من الأسباب الرئيسة للإقدام عليه، أي الإقرار بالهزيمة، وهو ما يفتح على احتمالات فوضى واسعة، ربّما تكون غزوة الـ»كابيتول» ألطفها.

لو كان الأمر بيدِه، لأعاد دونالد ترامب عقارب الساعة إلى الوراء، إلى لحظة الانتكاسة الأولى، وأيّ انتكاسة تلك؟ هل لها شكل أو اسم أو تاريخ؟ وما الذي يشغله أكثر: هل هي الهزيمة التي لم يرَها قادمة، أم العجز الذي بات يكبّله وهو يحثّ الخطى بعيداً عن عرش لا يزال يعاند أحقيّة ملكيّته؟ على رغم انتكاساته الكثيرة، يُقال إنه ما انفكّ يخفق منذ أن زار طيف «كورونا» بلاد العمّ سام. هامَ على وجهه بحثاً عن سحر يطرد الضيف الغريب. لكن خريف ترامب حلّ باكراً جداً، والضيف لمّا يزل في الدار، مرتكباً «11 أيلول» جديدة كلّ يوم، من دون أن يوقفه أحد. لا أحد يمضي في حال سبيله قبل موعده، وللضيف أطوار غريبة لم تَحسب لها «بلاد العالم» أيّ حساب.
الشتاء، لا ريب، طويل جداً في أميركا، والرئيس ربّما يبقى في مكانه، حتّى انقضاء مدّته في الـ 20 من هذا الشهر. لم يشأ ترامب مغادرة منصبه بلا عراضة، والاستسلام لخصم كان، في أحسن الأحوال، سيتلّقى خسارةً مذلّة أمام رئيس إمبراطوري ظنَّ يوماً أنه لا يُهزم. لكن الأحوال تبدّلت كثيراً في غضون عامٍ واحد، لتتجلّى طبقات العجز المتراكمة لدى إدارة ما فتئت تجاهر بمنجزاتها على مستوى الاستجابة للوباء، وهي ترفض، حتى الآن، الاعتراف بالإخفاقات التي ارتكبتها في هذا المجال. في الصورة الكبيرة، يمكن إلقاء خسارة ترامب على وباء سمّم عاماً انتخابياً كان سيُخصَّص، في الأحوال العادية، للتركيز على «معجزات» رئاسة ترامب، على المستويَين الداخلي والخارجي. لكن اشتغال الحزب الديموقراطي لتحجيم الظاهرة الغريبة، بدأ باكراً جداً، قبل موعد حلول الضيف بسنوات.

محاكمتان وثلاث مؤامرات
خلق الحزب الديموقراطي، منذ سقوط ترامب على الرئاسة الأميركية في عام 2016، واقعاً مزدوجاً، ليعزِّز سرديّته في مواجهة خصمه اللدود. واستطاع إزاءه، على مدى سنواتٍ أربع، تطويع مؤسسات الإعلام الليبرالية الكبرى لبناء قضية تجعل من هذا الخصم غير ذي أهليّة لمواصلة مهمّاته. واتّضح، بعد بطلان مزاعم «المؤامرة الروسية» التي تبنّاها الديموقراطيون وبنوا سياستهم استناداً إليها، وتقرير المحقّق الخاص، روبرت مولر، الذي فرمل اندفاعة التحقيق لعدم كفاية الأدلة لاتهام بهذا الحجم، أن الحزب العريق يرفض إجراء مراجعةٍ ذاتية، أو نقد التجربة الطويلة التي حوّلت الخصم في البيت الأبيض، إلى عدوّ، ما لبث يزداد عداءً واندفاعاً. في هذه الأثناء، كان الشرخ السياسي يتعاظم، في موازاة انقسام اجتماعي مترسِّخ عزّزته آليات الحكم في الفترة الماضية. كتلة اللهب هذه ظلّت تتغذّى يومياً على وقع الاستقطاب الحادّ، إلى أن انفجرت يوم السادس من الشهر الجاري، في قلب مؤسّسة الكونغرس. مردُّ انفجارها في هذا التوقيت، عاملان: الأوّل، اعتقاد طيف واسع من الأميركيين الذين صوّتوا لرئيسهم بأن مؤامرةً حيكت في الظلام لاستبعاد ترامب الذي غذّت خطاباته ورفضه الاعتراف بالهزيمة «المدبّرة»، حالة اليقين لدى هؤلاء. في هذه الحالة أيضاً، صنع الرئيس المغادر واقعاً مزدوجاً، بات يعيش داخله 75 مليون أميركي من الذين يصدّقون سرديته حول مزاعم تزوير الانتخابات. والثاني، افتقار جو بايدن، في هذه المرحلة الدقيقة، إلى القدرة على تبنّي خطابٍ يهدّئ، ولو قليلاً، من حدّة الانقسام المتزايد.

خلق الحزب الديموقراطي، منذ فوز ترامب بالرئاسة، واقعاً مزدوجاً، ليعزِّز سرديّته في مواجهة خصمه

قبل ظهور الوباء الذي ساهمت تداعياته على مستوى الولايات المتحدة في تدمير حظوظ ترامب للفوز بولاية ثانية، استهدى الحزب الديموقراطي إلى مؤامرة جديدة ستنعقد تحت عنوانها المحاكمة الأولى. ولمّا فشل في إثبات عمالة ترامب للروس، أحيت «أوكرانيا غيت» الآمال بإطلاق إجراءات عزل الرئيس. الرهان على «الفضيحة» ومآلاتها أنتج محاكمة سريعة ستنتهي إلى تبرئة ترامب في مجلس الشيوخ من تهمتَي «سوء استغلال السلطة» و»عرقلة عمل الكونغرس». مرّة ثانية، راهن الديموقراطيون على استثارة الرأي العام ضدّ الرئيس الأميركي، لإضعافه، وتالياً إخراجه من البيت الأبيض. لكنهم فشلوا ثانيةً، قبل أن تسعفهم استجابة الإدارة الفاشلة لاحتواء وباء «كورونا» الذي أصاب مقتلاً في صميم «إنجازات» الرئيس الأميركي: الاقتصاد، معطوفةً على الاحتجاجات التي شهدتها أميركا في الصيف الماضي، على خلفية مقتل جورج فلويد.

بين الهزيمة ورفضها
على إثر هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية، وصعود الديموقراطيين لترؤّس البيت الأبيض ومعهم السلطتان التشريعية والتنفيذية، بدأت وعوده بالفوضى التي سيسبّبها غيابه تتحقّق. جاءت حادثة اقتحام الـ»كابيتول» لتُفاقم الغضبة الديموقراطية إزاء نكران ترامب نتائج الانتخابات، وتسويقه سردية التزوير الذي شابها. حادثةٌ ارتأى مجلس النواب الديموقراطي الحكيم، المدعوم إعلامياً، أنها تستوجب إجراء محاكمة ثانية، تلغي احتمالات ترشّح ترامب مرّة جديدة في الدورة المقبلة عام 2024. وبالفعل، وجّه المجلس، أول من أمس، للرئيس المنصرف تهمة خطيرة عنوانها «التحريض على التمرّد» ليدخل التاريخ بصفته الرئيس الأميركي الوحيد الذي تعرّض مرّتين لآلية عزل سياسية الطابع لم تستخدم أصلاً، على مرّ تاريخ الولايات المتحدة، إلا مرّتين (جرت تبرئة أندرو جاكسون في 1868، وبيل كلينتون بعده بقرن ونصف قرن، فيما استقال ريتشارد نيكسون قبل إطلاق إجراءات محاكمته). أقرّ 232 نائباً، بينهم عشرة جمهوريين فقط، في مقابل 197، التهمة ضدّ ترامب، وهو ما جلّى بوضوح الشرخ السياسي المتعاظم، على رغم الضجة الكبيرة التي افتعلها الحزب الديموقراطي. لا يزال السؤال يدور حول ما إذا كان بإمكان الجمهوريين التخلّي عن رئيسهم. خيارات هؤلاء محدودة؛ فمِن جهة، يمكن لخطوة من هذا النوع أن تضعف حظوظ «الحزب الكبير» في أيّ انتخابات مقبلة، نظراً إلى شعبية ترامب المتضخّمة، وهم يتحدّثون، من جهة ثانية، عن الآثار التي يحتمل أن تترتّب على تحرّك كهذا، في ظلّ انقسامٍ اجتماعي غير مسبوق. على أيّ حال، سيحدِّد الحزب الجمهوري، مرّة ثانية، مسار إجراءات العزل في ختام المداولات، عندما يقوم أعضاء مجلس الشيوخ المئة بالتصويت. وفي حال إدانة الرئيس بغالبية الثلثين، تجرى عملية تصويت ثانية بالغالبية البسيطة لمنعه من الترشّح مجدداً. لكن الخطاب الجمهوري، بأكثريته، على رغم «الفاجعة»، لم يتبدّل كثيراً. فها هو رئيس «الشيوخ»، ميتش ماكونيل، يؤكّد أنه لا يمكن محاكمة ترامب قبل أيام من انتهاء ولايته. ويستند في ذلك إلى أن الدستور لا يوضح التدابير التي يمكن اتخاذها بعد انتهاء مهمّات المتّهم، فضلاً عن أنه لا يحدِّد جدولاً زمنياً، ما يعني أن بإمكان مجلس النواب التريّث قبل إحالة بيان الاتهام على مجلس الشيوخ، حتى يتسنّى تثبيت الفريق الحاكم الجديد (ينقسم مجلس الشيوخ المقبل بالتساوي بين 50 عضواً ديموقراطياً و50 جمهورياً. وبالتالي يبدو من الصعب تحقيق غالبية الثلثين، وخصوصاً أن عضواً جمهورياً واحداً صوّت مع الديموقراطيين في آلية العزل الأولى). إدانة ترامب أو حتى عزله لن يُغيّر في واقع الأمر شيئاً. فالرئيس الذي أطلّ، قبل يومين، على جمهوره بشريط مصوّر، ليقرّ بوجود تهديدات أمنية محتملة في الأيام المقبلة، رفض مجدّداً الإقرار بالهزيمة في الانتخابات وبنزاهتها وبشرعية الرئيس المنتخَب. وهذه عوامل تشكِّل أساس الإشكال الحالي المرشّح للتصاعد، وواقعة الاقتحام ليست إلّا البداية.

مأزق الحزب الجمهوري: خيارات أحلاها مرّ

عشرة نواب جمهوريّين حسموا أمرهم، أول من أمس، وصوّتوا لمصلحة إجراءات عزل الرئيس دونالد ترامب، بتهمة التحريض على العنف. القرار الذي اتخذه هؤلاء، إلى جانب الديموقراطيين، سيضع على كاهل زملائهم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، جهداً مضاعفاً، نظراً إلى أن حكمهم لن يحدّد مصير ترامب ومستقبله فقط، ولكن أيضاً المسار الذي سيذهب في اتجاهه حزبهم.

المؤكّد أنّه بعد أعمال الشغب التي شهدها مبنى «الكابيتول» من قبل أنصار ترامب، بات الحزب الجمهوري يواجه انشقاقات من قِبَل معسكرَين من الناخبين لا يمكنه تحمّل خسارتهم: أولئك الذين يقولون إن ترامب وحلفاءه ذهبوا بعيداً في الهجوم على انتخاب الديموقراطي جو بايدن؛ وأولئك الذين ما زالوا يرون أنهم لم يذهبوا بعيداً بما فيه الكفاية.
الآراء المتعارضة تستحوذ على الدائرة التي يجد القادة الجمهوريون أنفسهم داخلها. والآن، مع استعداد بايدن لتولّي منصبه في 20 كانون الثاني/ يناير، بات مستقبل الحزب الجمهوري مزعزَعاً، بسبب عدم اليقين، والانقسام الذي لم يشهده منذ فضيحة «ووترغيت» التي أدّت إلى خروج الرئيس ريتشارد نيكسون من البيت الأبيض، قبل نصف قرن تقريباً. وبحسب مسؤولي الحزب واستراتيجيّيه، فإن الاختيار الذي يواجه قادته وهم يفكّرون في جهود عزلٍ جديدة ــــ سواء عبر الاستمرار في دعم ترامب أو عبر جعله منبوذاً ــــ سيكلّفهم بالتأكيد الناخبين الذين يحتاجون إليهم للفوز في الانتخابات المستقبلية. فعلى الرغم من أن الجمهوريين فقدوا السيطرة على البيت الأبيض ومجلسَي الكونغرس، على مدى السنوات الأربع المقبلة، إلّا أن قاعدة ترامب لا تزال قوّة انتخابية قوية في الحزب، وهي ساعدته على جذب ناخبين ــــ حوالى 74 مليوناً ــــ أكثر من أيّ جمهوري في التاريخ.
الحسابات السياسية معقّدة بالنسبة إلى المشرّعين الجمهوريّين. هم يدركون أن نسبة كبيرة من الناخبين لا تزال متمسّكة بادّعاءات ترامب في شأن التزوير الجماعي في الانتخابات، وهي تواصل دعمه، حتّى بعد حصار «الكابيتول». بل إن الغالبية العظمى من مؤيّديه، بمن فيهم الـ 70٪ من الجمهوريين، لا تزال موالية له، وفقاً لاستطلاع جديد أجرته «رويترز» بالتعاون مع مركز «إيبسوس»، بعد أيام على أعمال الشغب. أكثر من ذلك، أعلن العديد من النشطاء أنهم على استعداد للتخلّي عن الحزب الجمهوري، بسبب أيّ تصرّف ضدّ قائدهم.
مع ذلك، فإن قدرة ترامب على جذب الدعم لا تتفوّق عليها إلّا قدرته على إبعاده: فاز بايدن بعدد من الناخبين أكثر من أيّ مرشح رئاسي في التاريخ، وحصل على أكثر من 81 مليون صوت، بمن فيهم الجزء الأكبر ممّن يصفون أنفسهم بالمستقلّين، وعدد صغير، ولكن مهمّ، من أصوات الجمهوريين الساخطين، وفقاً لاستطلاعات الرأي التي أجراها مركز «إيديسون للأبحاث». وحتّى الآن، يصرّ العديد من هؤلاء الناخبين، على أنّهم لن يدعموا أبداً حزباً لا يزال مرتبطاً بترامب.

بات مستقبل الحزب الجمهوري مزعزعاً بسبب عدم اليقين والانقسام

إذاً، تدور المعضلة حول نقطة مركزية واحدة، فبحسب ما يقول الخبير الاستراتيجي الجمهوري، مات ماكوفياك لوك، لوكالة «رويترز»: «لا يمكننا الفوز بدون قاعدة ترامب. إلّا أن السؤال هو: هل يمكننا التمسّك بقاعدة ترامب من دون ترامب؟». يُمثّل فقدان الدعم ــــ من الجمهوريين الذين يحبّون ترامب وممّن يكرهونه ــــ أزمة لحزب يكافح، أساساً، من أجل تشكيل ائتلاف وطني قابل للفوز. والآن، يبدو أن الدعم بين الجمهوريين آخذ في التآكل، وقد تسارع في هذا الاتجاه منذ أعمال الشغب التي وقعت الأسبوع الماضي في مبنى «الكابيتول»، ووسط جهود عزل جديدة تتّهم ترامب بالتحريض على العنف.
ولكن الدعم المستمرّ من قِبَل قاعدة ترامب لم يردع عدداً متزايداً من قادة الحزب الجمهوري عن السعي لإطاحة الرئيس، إمّا عن طريق المساءلة، أو بموجب أحكام التعديل الخامس والعشرين. يعمل هؤلاء انطلاقاً من نظرية مفادها أن من يريد الانفصال عن ترامب ورسم مسار جديد للحزب الجمهوري، عليه أن يدرك أن الوقت والفرصة قد حانا. «ردّ الفعل العام على هجوم الكابيتول شبه سلبي في كلّ العالم، لذا، فإن إظهار إدانتك لتلك الأحداث وحدها، من المحتمل أن يخفّف من ردّ الفعل السياسي ويمنح الأعضاء بعض الحماية»، بحسب روري كوبر، وهو مستشار ومساعد سابق لقيادة الحزب الجمهوري في مجلس النواب. يقول هذا الأخير لشبكة «إي بي سي نيوز» إن «المخاطر الانتخابية منخفضة اليوم، وتنمو بشكل كبير».
نظرية كوبر وغيره تنكسر عند أوّل ردّ فعل على تصويت النواب الجمهوريين لمصلحة قرار عزل ترامب. هؤلاء يواجهون انتقادات واعتراضات شديدة من قِبَل هيئات الحزب في ولاياتهم. ومن هؤلاء، جون كاتكو الذي بات من غير المعروف إن كان سيحافظ على دعم المنظّمات الجمهورية في ولاية نيويورك. أمّا النائبة ليز تشيني، الرقم ثلاثة في قيادة الحزب الجمهوري في مجلس النواب، ورئيسة مؤتمر الحزب، فقد تعرّضت للشجب الحزبي في ولايتها وايومنغ، فيما وزّع أعضاء «كتلة الحرية» في مجلس النواب التماساً لفرض التصويت على قرار يدعوها إلى الاستقالة من منصبها، بتهمة «إفساد سمعة المؤتمر وإثارة الشقاق».
في المحصّلة، سيسعى الجمهوريون إلى الابتعاد عن أعمال الشغب، لكن من المرجّح أن يبقى الاستقطاب الشديد، والقومية البيضاء، والسياسات المناهضة للديموقراطية ــــ التي يميل الجميع إلى ربطها بترامب ــــ، سمة مميّزة وطاغية على نسبة كبيرة من الجمهوريين في المستقبل. ذلك أن تلك الظواهر إنما سبقت رئاسة ترامب، ولم يأتِ هذا الأخير إلّا ليكون معبّراً عنها.

الفريق الجديد أمام اختبار الواقع

الشخصيات التي حرص الرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، على ضمّها إلى إدارته تشي برغبته في التأكيد أن سياساته الداخلية والخارجية ستكون على النقيض من تلك المعتمَدة من قِبَل دونالد ترامب. استعادة الولايات المتحدة لـ»قوّتها الناعمة»، التي أَلحق بها ترامب أضراراً بالغة بحسب بايدن ومؤيّديه، تبدو في نظر هذا الأخير ضرورة حيوية لاستعادة بلاده موقعها القياديّ للعالم «الحرّ». وقد حضّ جوزف ناي، مخترع هذا المفهوم في حقبة الأحادية الأميركية بعد نهاية الثنائية القطبية، في مقال على موقع «ذي ناشيونال إنترست» بعنوان «القوة الناعمة الأميركية باقية بعد ترامب»، على منح الأولوية لتعزيز قدرة جذب يَعتبر أنها ليست ملكاً حصرياً للحكومة الأميركية، بل للمجتمع المدني أيضاً، وتكمن قوتها في «منظومة القيم» التي «جسّدتها الولايات المتحدة كدولة وكنمط حياة» في التاريخ المعاصر. اختيار الرموز الذين أسهموا في التوصّل إلى الاتفاق النووي مع إيران، كأنتوني بلينكن وجايك سوليفان، وأخيراً ويليام برنز، لاحتلال مواقع حسّاسة في الفريق الجديد، يرتبط، إضافة إلى الصلات الوثيقة التي تربطهم بالرئيس المنتخَب، بإرادة تظهير ما يُفترض أنه قطيعة مع توجّهات الإدارة السابقة في ميدان السياسة الخارجية. وتكتسب تسمية برنز، الدبلوماسي المخضرم وأحد أبرز المفكّرين المطالِبين بـ»إعادة اختراع السياسة الخارجية» لتتلاءم ومتغيّرات الوضع الدولي، مديراً للاستخبارات المركزية، أهمية خاصة في هذا الإطار. غير أن التحدّيات التي ستواجهها إدارة بايدن عند تسلمها مهامها ستوضح مدى قدرتها على «الاختراع» و»التجديد» في حقل السياسة الخارجية، وقد تكون فنزويلا أولى الساحات التي تُختبَر فيها هذه القدرة، ومدى فعاليتها في تحقيق الأهداف الأميركية.

 
«اختراع سياسة خارجية جديدة»
تعيين ويليام برنز على رأس وكالة «المهمّات القذرة»، وهي الصفة الملازمة للاستخبارات المركزية في العقود الماضية، خطوة تتضمّن بعداً إعلانياً أكيداً. لم يتوقف الرجل عن التحذير من مغبّة استناد بلاده إلى أدوات «القوة الخشنة» في علاقاتها مع العالم على حساب تلك «الناعمة»، وفي مقدّمتها الدبلوماسية. وهو اعتبر، في كتابه الصادر في 2019، «القناة الخلفية»، أن الدبلوماسية الأميركية، كأداة رئيسة من أدوات السياسة الخارجية، في غرفة العناية الفائقة. برنز كان السفير الأسبق لدى روسيا من عام 2005 إلى عام 2008، ومساعد وزير خارجية للشؤون السياسية بين عامَي 2008 و2011، ونائب وزير الخارجية بين عامَي 2011 و2014. من النادر أن يحظى دبلوماسي أميركي بإطراء كذلك الذي حظي به برنز من قِبَل كبار مسؤولي الإدارة الأميركية ووسائل الإعلام. أجّل هذا الأخير قرار تقاعده مرّتين، بطلب من وزير الخارجية آنذاك جون كيري في المرّة الأولى، وبإلحاح من الرئيس السابق باراك أوباما في المرّة الثانية. بين الإنجازات الأميركية في ميدان السياسة الخارجية التي تُنسَب إليه، دوره في دفع ليبيا إلى إزالة برنامجها العسكري السرّي، وفي بناء قناة التفاوض السرّية الثنائية بين الولايات المتحدة وإيران، والتي سهّلت التوصّل إلى الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني عام 2015. يضاف إلى سلسلة الإنجازات، نجاحه في تحسين العلاقات مع روسيا خلال رئاسة أوباما الأولى، وتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند. قال عنه جون كيري إنه «رجل دولة من طراز جورج كينان (السفير الأميركي الأسبق في الاتحاد السوفياتي الذي أسهم في بلورة استراتيجية الاحتواء)، وهو يستحق بامتياز موقعه على اللائحة القصيرة جداً لأساطير الدبلوماسية الأميركية». أوباما، بدوره، أكد أن بيرنز «مستشار حاذق ودبلوماسي استثنائي ملهِم لأجيال من بعده… البلاد أقوى بفضل خدماته». أحد «أساطير» الدبلوماسية الأميركية جزم في كتابه المذكور بأن الأخيرة مهدَّدة بالموت، وأن الحفاظ على موقع الولايات المتحدة كقوة دولية، وثيق الصلة بنجاح مهمّة إنقاذها أو فشلها.
هو يعتقد اليوم أن الفرصة سانحة لإعادة «اختراع» السياسة الخارجية، بعيداً من «أوهام الانعزالية» أو من مواصلة الاعتماد شبه الحصري على القوة العسكرية في سياق دولي شهِد تغيّرات جذرية. يشير برنز، في مقال على موقع «ذي أتلانتك» بعنوان «الولايات المتحدة تحتاج إلى سياسة خارجية جديدة»، إلى أن الانطواء على الذات لا يمكن أن يتناسب مع شبكة المصالح الضخمة الممتدّة عبر العالم للولايات المتحدة، كما أن رفع حدّة الصراعات مع الأطراف الدوليين الآخرين، بما فيهم الصين وروسيا، والدخول في مواجهات مفتوحة معهم قد يُرتّب أكلافاً لا تستطيع بلاده تحمّلها، ومن غير المحسوم أن شعبها مستعدّ لقبولها. يَخلُص الدبلوماسي السابق إلى أن الخيار الأكثر واقعية المطروح على صنّاع القرار هو مقاربة مختلفة تستند إلى ركيزتين: بناء تحالفات متعدّدة، أساساً مع الأوروبيين، تتيح حشداً للقوى ذات المصالح المشتركة، تُمكّنهم جميعاً من التعامل من موقع أفضل مع المنافسين أولاً؛ والتركيز على أن تكون رعاية مصالح الطبقات الوسطى الأميركية في مقدّمة غايات السياسة الخارجية، وهي فكرة كَرّرها بايدن في خطاباته ومقالاته خلال الحملة الانتخابية، ثانياً. ولا شك في أن إدراك عمق الشرخ الداخلي الذي كشفته التطوّرات في الولايات المتحدة هو المحفز الأساسي لمثل هذا الطرح. غير أن تسمية دبلوماسي «ناعم» لقيادة وكالة «القوة الغاشمة» والانقلابات والاغتيالات، يمثّل بذاته إقراراً بأن ضمور القدرات الأميركية بات يتطلّب السعي إلى نسج شراكات وتحالفات مع لاعبين آخرين، مع ما يعنيه ذلك من أخذ لمصالحهم وطموحاتهم بعين الاعتبار.

الاختبار الفنزويلي
ملفّات كثيرة، بعضها شديدة التعقيد، ستسمح بمعرفة عناصر الجدّة التي ستتضمّنها سياسة فريق بايدن الخارجية، بدءاً بالعلاقات مع الصين وروسيا، مروراً بإيران والمنطقة، وصولاً إلى ما تُصنّفه النخبة الأميركية «حديقة خلفية»، أي أميركا الوسطى واللاتينية. جوف رامزي، مسؤول ملف فنزويلا في مكتب واشنطن لشؤون أميركا اللاتينية، وهي مؤسّسة بحثية «ناشطة»، قريبة من بعض أوساط المعارضة الفنزويلية ولكن نقدية لسياسات ترامب، رأى في مقال على موقع «ريسبونسيبل ستايت كرافت»، أن فريق بايدن يستطيع اتباع مقاربة جديدة للوضع في فنزويلا، مختلفة عن تلك الخاصة بفريق ترامب، والتي تَميّزت بطابعها المنفرد، الذي أفضى إلى إقصاء دول «مجموعة ليما» في أميركا اللاتينية – على رغم عدائها للنظام الوطني في البلاد – والاتحاد الأوروبي عن الجهود الهادفة إلى «إيجاد حلّ للأزمة السياسية»، وتمسّكها بخوان غايدو كممثّل شرعي وحيد للمعارضة الفنزويلية. يُصرّ رامزي على أن إشراك هذه الأطراف في الجهود المذكورة، والحوار مع الصين وروسيا لمنع تحوّل فنزويلا إلى ساحة صراع دولي معهما، كفيلان بتأمين الشروط المناسبة لبلورة مسار سياسي يسمح بتحجيم نفوذ الحكومة البوليفارية، وفتح المجال أمام تعزيز موقع المعارضة في مقابلها. بكلام آخر، تبقى الأهداف واحدة، وهي إسقاط الحكومات الوطنية، ولكن تختلف السبل لتحقيقها. وما ينطبق على فنزويلا ينطبق بدرجة أو بأخرى على بقية الملفّات. لكن النخب «المستنيرة» في الإمبراطورية تعي عجزها المتزايد، وتبحث عن شركاء للحفاظ على ما أمكن من نفوذ وسيطرة.