الاخبار الاخبار السياسية

قاضية بريطانية ترفض تسليم مؤسس «ويكيليكس» إلى أميركا: أسانج قد ينجو… هذه المرّة

لندن | بعدما قَبلت قاضية بريطانيّة كل ادّعاءات محامي الولايات المتحدة ورفضت كل مرافعة فريق الدفاع لدى النظر في مذكرة تسليم مؤسس «ويكيليكس»، جوليان أسانج، إلى «العدالة» الأميركية، قرّرت أن ترفض الطلب على أساس الوضع الصحي والسايكولوجي للمتهم بقضايا تجسّس يصل مجموع عقوبتها، حال إدانته، إلى أكثر من 170 عاماً. قرارٌ سارع على إثره الأميركيون إلى إعلان عزمهم على استئنافه لدى المحكمة العليا، فيما عبّر كثيرون عن قلقهم من إطلاق أسانج على خلفية صحية، ما يعني بالضرورة أن صحافياً بصحة جيّدة كان سينتهي بحكم مؤبّد في زنزانة إفرادية.

ردّت فانيسا باريتسر، القاضية في مقرّ المحكمة الجنائية المركزية لإنكلترا وويلز في أولد بيلي في العاصمة البريطانيّة لندن، صباح أمس، مذكّرة السلطات الأميركيّة المطالِبة بتسليم مؤسّس «ويكيليكس»، جوليان أسانج (49 عاماً)، إلى الولايات المتحدّة. وجاء القرار بعدما وجدت القاضية أن ظروف الاعتقال القاسية في السجون الفدرالية الأميركية وطبيعة التهم الموجّهة لأسانج، لن تكونا مناسبتين لظرفه الصحي والنفسي، إذ يعاني الرجل من نوبات اكتئاب حادّة متكرّرة، وشُخِّص من قِبَل فريق طبي حكومي بأنه مصاب بنوع من أنواع التوحّد (متلازمة اسبرغر). وفي معرض تفسيرها للقرار، رجّحت القاضية أنه في حال إدانة أسانج من قِبَل محكمة أميركية، سينتهي به الأمر في أحد السجون الخاضعة لنظام أمني مشدّد، وسيقدم على الانتحار وفق التقييمات السايكولوجية التي أجريت له. في ضوء ذلك، سارعت الحكومة الأميركية إلى تأكيد عزمها على استئناف القرار لدى محكمة العدل العليا، فيما سيكون بمقدور فريق الدفاع عن أسانج التقدّم بطلب للإفراج الموقّت عن موكلهم بكفالة من سجن بلمارش (شمال لندن) المخصص لعتاة المجرمين، والخاضع لإجراءات أمنية مشدّدة.
يطارد الأميركيون أسانج منذ عام 2010، عندما نشر على موقعه الشهير، «ويكيليكس»، ملايين الصفحات من وثائق رسمية أميركية مصنّفة بالسرية، كشفت طرائق عمل الإمبراطورية وجرائم الدولة التي ترتكبها مختلف أجهزتها الأمنية، لا سيّما في العراق وأفغانستان. وبينما كان في لندن، حاولت النيل منه من طريق تلفيق تهم له (أسقطت لاحقاً ولم تصدر في شأنها أي أحكام)، باغتصاب سيدتَين سويديتَين ومطالبة السلطات السويدية بتسليمه إليها للإدلاء بأقواله. وقتها، قبلت محكمة بريطانية الطلب شكلاً، وسمحت لجوليان بالتنقّل بكفالة إلى حين إتمام الإجراءات، لكن خشيته من هيمنة الولايات المتحدة على السويد واحتمال اغتياله هناك، دفعته إلى الاعتصام في مقرّ سفارة الإكوادور في العاصمة البريطانيّة، وتقديم طلب لجوء سياسي قَبِلته حكومة يسارية كانت تدير ذلك البلد الأميركي اللاتيني. بقي أسانج بعدها محاصراً في مقر السفارة لسبع سنوات، تجسّست عليه في خلالها الاستخبارات الأميركية لحظيّاً، قبل أن تقرّر سلطات الإكوادور اليمينية، التي تولّت السلطة لاحقاً، طرده من مقرّ سفارتها في نيسان/ أبريل 2019، حيث اعتقل من على بوابتها ونُقل منها إلى سجن بلمارش بتهمة كسر الكفالة. دفع ذلك الولايات المتحدة إلى المسارعة في إعداد دعوى ضدّه بـ17 تهمة انتهاك لقانون التجسس، وتهمة واحدة بالتآمر لاختراق كمبيوتر فدرالي، تقدّمت على أساسها إلى القضاء البريطانيّ بمذكرة لتسليمه إليها ومواجهة المحاكمة هناك. ويقول الادّعاء إن أسانج ساعد محلّلة الدفاع الأميركية، تشيلسى مانينغ، في خرق قانون التجسّس الأميركي، وكان متواطئاً فى قرصنة كمبيوترات فدرالية مع آخرين، ولم يتردّد في نشر معلومات سرية عرّضت للخطر حياة مخبرين وعملاء ومتعاقدين. وتضمنت لائحة اتهام لاحقة ادّعاءات جديدة استهدفت خطاباته ضدّ الولايات المتحدة في المؤتمرات، والدَّور الذي يُزعم أنه لعبه في مساعدة إدوارد سنودن، أهم المبلّغين عن المخالفات المريعة للقانون في وكالة الأمن القومي الأميركية، على مغادرة هونغ كونغ واللجوء إلى موسكو، قبل تمكّن عملاء الاستخبارات الأميركية من الظفر به.

رفضت القاضية مذكرة التسليم على أساس أن الحالة الصحية والنفسية للمتّهم ستدفعه إلى الإقدام على الانتحار

ومن المقرّر أن يستأنف محامو السلطات الأميركية قرار المحكمة البريطانية فوراً لدى المحكمة العليا، فيما سيتقدّم فريق الدفاع عن أسانج بطلب لإطلاق سراحه بكفالة يوم غدٍ الأربعاء – إن تمّ تقديم الاستئناف – أو إخلاء سبيله نهائيّاً. ولا تعرف الوجهة التالية لجوليان وزوجته المحامية ستيلا موريس وطفليهما، ولكنّه سيبقى ملاحقاً دائماً من قبل أجهزة الاستخبارات الأميركية، وعلى الأرجح أنه سيطلب اللجوء السياسي إلى دولة غير بلاده أستراليا التي لعبت دوراً سلبياً للغاية ضد مواطنها خلال محنته المستمرة منذ عقد كامل. ووصفت السيّدة موريس الحكم بأنه «خطوة أولى مهمّة نحو العدالة»، لكنها قالت لمؤيديه الذين تجمّعوا خارج المحكمة إن الوقت لم يحن بعد للاحتفال.
واستمع أسانج من وراء حاجز زجاجي، بينما كانت القاضية باريتسر تسقط حجج فريق الدفاع واحدة تلو أخرى، بما فيها الإشارة إلى أنّ مؤسس «ويكيليكس» لن يحصل على محاكمة عادلة في الولايات المتحدة، بينما قبلت جميع تأكيدات محامي السلطات الأميركية أن أنشطة الرجل تتعارض مع قوانين التجسّس الأميركية، وتقع خارج مجال العمل الصحافي، ولا يحميها الحقّ في حرية التعبير، مؤكدةً أن ليس لديها أي سبب للشكّ في أن كفاءة الحماية الدستورية والإجرائية المعتادة ستطبق على محاكمة يواجهها في الولايات المتحدة. لكنها، في النهاية، رفضت مذكرة التسليم على أساس أن الحالة الصحية والنفسية للمتّهم، وطبيعة الإجراءات في السجون الأميركية لن تكونا كافيتين لمنعه من الإقدام على الانتحار.
وعلى رغم أن قرار القاضية باريتسر أثار الغبطة بين مؤيدي أسانج وعائلته لتجنّبه، مبدئياً، الوقوع في براثن النظام الأميركي، لكنّ كثيرين أعربوا، مع ذلك، عن استيائهم وقلقهم من حقيقة أن القرار يستند حصراً إلى أسباب صحية، وأنه يفتح الباب مشرعاً أمام تسليم صحافيين – ممَّن ينتقدون الممارسات الأميركية الإمبراطورية وجرائم حربها من خلال تلفيق تهم لهم وفق قوانين التجسّس الأميركية.
في الحقيقة، يؤسّس قرار القاضية باريتسر لسابقة قانونيّة ستجعل من ممارسة العمل الصحافي في بريطانيا – الأم المزعومة للحريات والديموقراطيات – مغامرة محفوفة بالمخاطر، وسيسهّل مستقبلاً تسليم كل من تسوّل له نفسه لعب دور أسانج في الكشف عن جرائم الدول إلى أنظمة تمارس أسوأ الانتهاكات ضدّ حقوق الإنسان. وهكذا، لن تضطر مملكة آل سعود، مثلاً، إلى إرسال فرق إعدام لاصطياد معارضيها وإعدامهم في مقارها الدبلوماسية، وستكتفي بتقديم اتهامات من محاكم عشوائية تعمل وفق قوانين عفى عليها الزمن لتسلّمهم وفق إجراءات تقاض عبر المحاكم البريطانية. إنّه يوم أسود للصحافة وحريّة التعبير في الغرب والديموقراطيات (المزعومة) سيكون له ما بعده.