الاخبار الاخبار السياسية

«حرب نووية» وقعت في بيروت

قوة الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت أمس، تعادل قوة قنبلة نووية «تكتيكية». كمية نيترات الأمونيوم الموجودة في العنبر رقم 12، منذ أكثر من 6 سنوات، مهملة، وبلا توضيب ولا تخزين يقيان المدينة شر الانفجار، تعادل ما بين 600 طن و800 طن من مادة الـtnt. لم يُعرف بعد ما إذا كانت كل تلك الكمية قد انفجرت. لكن ما جرى كان أشبه بانفجار قنبلة نووية صغيرة. صحيح أن لا مواد مشعّة فيها (لا يمكن الجزم بذلك في لبنان)، لكن أحد الأجهزة الأمنية تحدّث عن وجود براميل من النفايات السامة، منذ تسعينيات القرن الماضي، قرب العنبر نفسه! ما جرى أكبر من أن يوصَف ومن أن يُحاط به. هو الارتطام الأول، والأكبر، في رحلة «السقوط الحر» للبلاد. انفجار كهذا (ليس قنبلة نووية) لم يشهد كوكب الأرض الكثير منه، منذ اختراع البارود. لبنان هنا سجّل رقماً قياسياً. الأمر ليس تقنياً، بطبيعة الحال. هو شأن سياسي، بالمعنى غير المبتذل للكلمة. شأن يمسّ الناس في حياتهم. عشرات الشهداء، وآلاف الجرحى، وآلاف المساكن والمؤسسات والمحال والمباني المدمّرة والمتضررة، يبعد بعضها عشرات الكيلومترات عن مركز الانفجار. حصيلة كهذه تحتاج إلى حرب. تدمير مرفأ بكل ما فيه يستلزم تجريد حملة عسكرية. الحرب وقعت في بيروت أمس، لكنها تكثّفت زمنياً فلم تطل سوى ثوانٍ معدودة. مدة كانت كافية لجعل المدينة الساحلية، ومعها كل لبنان، بلاداً منكوبة. بعد زلزال عام 1956، صار اللبنانيون يتداولون تعبير «سنة الهزّة»، لما خلّفه ذلك الحدث من أثر في وعيهم. يوم 4 آب 2020 سيُحفظ كيوم لحدث لا توصَف فداحته. ثمة بلاد لم تُترك فيها موبقة بلا أن تُرتَكَب، إلى حد تعريض أهلها للإبادة. حدث ذلك، عملياً لا مجازياً، في الرابع من آب عام 2020.

أحد الأجهزة الأمنية تحدّث عن وجود براميل من النفايات السامة، منذ تسعينيات القرن الماضي، قرب العنبر 12

المعلومات الأمنية الأولية كشفت أنّ حريقاً نشب في العنبر رقم 12. وحضرت قوة من فوج إطفاء بيروت للعمل على إخماده. لكن النيران اشتدت في غضون دقائق، ووقع الانفجار الهائل. أسباب الحريق لم تُحسم. أحد الأجهزة الأمنية يجزم بأنه نتيجة العمل على «تلحيم» فجوة وبوابة حديدية في العنبر. فيما فضّلت الأجهزة الأخرى انتظار نتيجة التحقيق. أكثر من 2700 طن من نيترات الأمونيوم (تُستخدم في تصنيع المتفجرات والأسمدة الزراعية) المخزّنة بصورة عشوائية، صارت وقوداً للحريق وسبباً للتفجير الذي أتى على جزء من العاصمة وكامل المرفأ. وعلمت «الأخبار» أن جهاز أمن الدولة أجرى تحقيقاً رفع بموجبه تقريراً عن وجود مخاطر قد تتسبب بها هذه المواد، علماً بأن عصارة النفايات والمواد الكيميائية كانت تتسرّب في المرفأ. وفي اجتماع المجلس الأعلى للدفاع أمس، عرض المدير العام لأمن الدولة، اللواء طوني صليبا، التقرير الذي أعدته مديريته مطلع العام الجاري. فيما سرّبت مديرية الجمارك ليلاً، كتاباً موجهاً إلى القضاء، عام 2017، تذكر فيه ست رسائل سابقة، موجهة إلى قاضي الأمور المستعجلة في بيروت، تطلب فيها إعادة تصدير نيترات الأمونيوم، أو بيعها إلى إحدى شركات تصنيع المتفجرات.
هذه الشحنة من المواد التي ارتُكبِت بها جريمة الرابع من آب بحق بيروت وعموم لبنان، موجودة في المرفأ منذ عام 2013، بقرار قضائي لبناني. حينذاك، كانت سفينة مولدوڤية آتية من جورجيا، وفي طريقها إلى الموزنبيق مرّت بالمياه اللبنانية، حيث تعرّضت لعطل. بعد ذلك، تقدّم عدد من الدائنين بشكاوى قضائية ضد مالكي السفينة، فاحتجز القضاء الشحنة التي أبقيت في العنبر رقم 12.
وبصرف النظر عن الأمور التقنية والقانونية، ثمة أسئلة لا بد من طرحها، وتحتاج إلى إجابات لتحديد المسؤوليات:
لماذا بقيت المواد الخطرة في لبنان؟
ولماذا لم ترحَّل لاحقاً بعد معالجة أمر الباخرة؟
من هو صاحب القرار بأن تبقى هذه المواد بلا أي إجراءات احترازية؟
من يدفع بدل إيجار تخزينها؟
من المستفيد من بقائها؟
لماذا لم تتدخّل مديرية المخابرات، صاحبة الصلاحية الأمنية في المرفأ، والمسؤولة عن كل ما له صلة بقضايا الأسلحة والمواد المتفجرة، لمنع تخزين مواد قابلة للتفجير في مرفق حساس كميناء العاصمة البحري؟
هل توقفت مديرية الجمارك، بعد عام 2017، عن إرسال كتب إلى القضاء من أجل «تحرير» الشحنة المحتجزة؟
ما هو دور لجنة إدارة المرفأ، المؤقتة منذ عقود، في الحفاظ على سلامة المنشأة التي تتولى إدارتها باستقلالية شبه تامة عن كل ما عداها في الجمهورية؟
من هو هذا القاضي الذي لم تُقنعه المطالبات الأمنية بوجوب «فكّ حجز» هذه المواد الشديدة الخطورة؟ ووفق أي قانون اتخذ قراره؟ وهل «الحقوق الفردية» للدائنين تبقى «مقدّسة» في ظل وجود مخاطر جمّة على الأمن الوطني؟
هذه الأسئلة لا تهدف إلى التصويب على أحد، ولا إلى اتهام أحد. لكن جريمة بهذا القدر من الخطورة، لا يجوز أن تمرّ من دون تدحرج رؤوس كبيرة. شبه «الإبادة» التي تعرّضت لها العاصمة أمس، توجب تغيير الكثير من السلوكيات والسياسات.
اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، الذي عُقِد في بعبدا أمس، وعد بالإجابة على هذه الأسئلة. وبحسب مصادر المجتمعين، سيكون بالإمكان، بدءاً من اليوم، التحقيق المباشر لمعرفة ما إذا كان التفجير تم عن طريق الخطأ أو أن هناك عملية تخريب أو تفجير مقصودة.
وفيما تقرر تأليف لجنة تحقيق تضم وزراء الدفاع والداخلية والعدل وقادة الأجهزة الأمنية، جرى تأكيد وجوب أن تُنجز التحقيقات في غضون خمسة أيام، وأن تُحدد المسؤولية عن الإهمال منذ 7 سنوات إلى الآن، «في ظل وجود وجهة واضحة بتوقيف كل من له علاقة بالأمر دون أي استثناء، وأن يتم استدعاء وإخضاع كل موظف أو شخص على صلة بالملف إلى التحقيق».

كمية نيترات الأمونيوم الموجودة في المرفأ، بلا توضيب، تعادل ما بين 600 طن و800 طن من مادة الـtnt

بالنسبة إلى الوضع الإنساني، تقرر ان تقوم فرق من وزارة الصحة بفحص الحمض النووي لعدد كبير من الضحايا المجهولي الهوية، وإعداد لائحة للمطابقة مع مواطنين يسألون عن أفراد من عائلاتهم. كما تقرر من خلال إعلان حالة الطوارئ في بيروت لمدة 14 يوماً قابلة للتجديد، إخضاع المستشفيات والمرافق العامة والخاصة لسلطة الجيش اللبناني. وسيبدأ الجيش بالتعاون مع جهات أخرى عملية مسح شاملة للأضرار بدءاً من الغد، بعد تأليف لجنة وزارية تبدأ صباح اليوم اجتماعاتها في السراي الكبير لأجل درس آلية استقبال كل أنواع المساعدات وحصرها بهذه اللجنة من دون أي دور لأي طرف آخر. كذلك كلفت وزيرة الدفاع الاتصال بممثلين عن جميع الدول التي أبدت استعدادها للدعم، على أن تقوم الوزارة المعنية بوضع تقدير لخسائر المرفأ وكيفية الشروع فوراً بعملية إصلاحه. وإلى ذلك الحين، تقرر تأهيل مرفأ طرابلس بما يلزم سعياً إلى تعويض خروج مرفأ بيروت من الخدمة.
الاستغلال السياسي للجريمة التي وقعت بدأ سريعاً. السعودية سعت – عبر وسائل الإعلام والسياسيين الممولين من قبَلها في الرياض ودبي وبيروت – إلى ربط الحادثة بحزب الله، قبل أن يخرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليقول إن العسكريين الأميركيين «يعتقدون أن انفجار بيروت ناجم عن قنبلة من نوع ما». في المقابل، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنها في انتظار نتائج التحقيق اللبناني.

مواقف دوليّة متضامنة
دياب: سيدفع المسؤولون عن الحادث الثمن

قال رئيس الحكومة حسّان دياب إنّ ما جرى يُعتبر «كارثة وطنية كُبرى. المشاهد تتكلّم عن حجم المصيبة التي ضربت لبنان، الذي هو كلّه منكوب»، مُعتبراً أنّ «المحنة عصيبة لا تنفع في مواجهتها إلّا الوحدة الوطنية». وأضاف رئيس الحكومة، الذي أعلن الحداد الوطني اليوم، بأنّها «نكبة لا نستطيع تجاوزها إلّا بعزيمةٍ وإصرار على مواجهة التحدّي الخطير ونتائجه المُدمّرة». أما الأهم في الحديث، فالتأكيد بأنّ «ما حصل لن يمرّ من دون حساب، سيدفع المسؤولون الثمن، وهذا وعد للشهداء والجرحى. ستكون هناك حقائق تُعلن عن هذا المستودع الخطير الموجود منذ عام 2014»، مُضيفاً أنّه «لن أستبق التحقيقات فالوقت الآن للتعامل مع الكارثة. لكن أعدكم أنّ هذه الكارثة لن تمر من دون مسؤولية ومسؤولين عنها». وطلب من اللبنانيين «أن نتوحّد»، ومن الدول «الشقيقة والتي تُحبّ لبنان» أن «تُساعدنا على بلسمة جراحنا… نحن في مصيبة».
العديد من الدول أعربت عن تضامنها واستعدادها للمساعدة في مواجهة النكبة التي ألمّت بالبلد. أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، اتصل بالرئيس ميشال عون، آمراً بإرسال مستشفيات ميدانية إلى بيروت «والاستعداد لتقديم كلّ أنواع المساعدة اللازمة». ونيابةً عن الملك الأردني عبد الله الثاني، اتصل وزير الخارجية أيمن الصفدي بنظيره شربل وهبة، مؤكداً «الوقوف إلى جانب الأشقاء واستعداده لتقديم أي مساعدة». وأعلنت الخارجية السعودية «وقوفها التام وتضامنها مع الشعب اللبناني الشقيق». التضامن أيضاً أعلنه رئيس مصر عبد الفتّاح السيسي، واتصل وزير الإعلام المصري أسامة هيكل بنظيرته منال عبد الصمد، مُبدياً كلّ الدعم والاستعداد للمساعدة. وكتب وزير الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش على «تويتر» داعياً «في هذه الساعات العصيبة أن يحفظ ربّ العالمين لبنان الشقيق واللبنانيين، وأن يُخفّف مصابهم ويضمّد جراحهم، ويحفظ بيوتهم من الأحزان والآلام».
واتصل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان بالرئيس عون مُبلغاً إيّاه استعداد تركيا «لتقديم المساعدات إلى لبنان في المجالات كافة، وفي مقدمتها الصحة». وكتب وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف على «تويتر» أنّ إيران مستعدة لمساعدة لبنان بأي طريقة، «قلوبنا ودعاؤنا مع شعب لبنان العظيم الصامد. كما هو الحال دائماً، تقف إيران على أتم الاستعداد لتقديم المساعدة بأي طريقة ضرورية. دمت قوياً يا لبنان».
ونيابةً عن «الأمم المتحدة»، تواصل المنسق الخاص في لبنان بان كوبيتش مع دياب، مُعرباً له عن «استعداد الأمم المتحدة لتقديم المساعدة بما فيها الإنسانية. وستقوم نائبة المنسق الخاص والمنسقة الإنسانية نجاة رشدي بتنسيق هذا الدعم مع السلطات المعنية».
غربياً، وضعت قبرص جميع إمكاناتها بتصرف لبنان لمواجهة تداعيات الانفجار، الذي وصلت تردداته إلى الجزيرة. وأعلن رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون إرسال مساعدات إلى بيروت، «وأعبر عن تضامني الأخوي مع اللبنانيين». في الإطار نفسه، أعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو «الاستعداد لمساعدة لبنان بأي طريقة ممكنة». وقال رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون إنّ بلاده مستعدة لتقديم كل ما بوسعها من دعم و«قلوبنا وصلواتنا مع من طاولهم هذا الحادث المروع». وأكدت الخارجية الأميركية أنّه تجري متابعة التقارير عن انفجار في بيروت عن كثب «ومستعدون لتقديم كلّ المساعدة الممكنة».

مرفأ بيروت مدمّر: عن أيّ كارثة نتحدّث؟

انتهى مرفأ بيروت. مُسح عن بكرة أبيه. ليس التعبير انتقامياً، بل يعكس واقع اليأس بعد هذه الكارثة. هو المرفأ الذي كان يستقطب التجاذبات حول آليات تطويره. كان السؤال يدور حول تطويره ليكون محطة حاويات، أو محطّة للبضائع الآتية بلا حاويات مثل الحديد والقمح وسواهما. اليوم صار السؤال يدور حول البديل. قبلها يجب أن نعلم لماذا حصل ذلك؟ من يتحمّل المسؤوليات؟ من دون هذه الإجابات سيكون البحث عن بديل أمراً خارج المنطق.

 
مرفأ بيروت، كما يرد على الموقع الالكتروني لإدارة مرفأ بيروت، كان يتعامل يومياً مع 300 مرفأ عالمي ويستقبل نحو 3100 سفينة سنوياً، ومن خلاله تتم غالبية عمليات الاستيراد والتصدير. تمثّل البضائع التي تدخل إلى مرفأ بيروت 70% من حجم البضائع التي تدخل لبنان. فيه إهراءات القمح والمنطقة الحرة بمساحة تبلغ 81000 متر مربع.
عبر المرفأ تدخل إلى لبنان غالبية السلع والمواد المستوردة من غذاء ومواد أولوية وأدوية وآلات كهربائية وسواها… في المجمل يمثّل المرفأ جزءاً أساسياً من القدرة التخزينية للبنان، وهذا الأمر لا يقتصر على إهراءات القمح، بل هناك مستودعات واسعة فيها سلع مختلفة.
هذا الأمر يجعل من الصعب الاستغناء عن مرفأ بيروت. هناك مكمن الكارثة. فالبنية التحتية للمرفأ مُعدّة لتكون مركزاً أساسياً وحيوياً للنسبة الأكبر من حركة التبادل الخارجية للبنان. شبكة النقل المحلية قائمة على أساس الولوج إلى مرفأ بيروت ونقل البضائع إلى بيروت وجبل لبنان بشكل أساسي ومنهما إلى باقي المناطق. هو محور لا يمكن الاستغناء عنه. أما اليوم فبات البحث عن البديل أمراً يتعلق بالبقاء. تخيّلوا أن لبنان كان مصمّماً في السنوات الماضية ليستورد النسبة الأكبر من السلع التي يستهلكها. اليوم فقد لبنان المنفذ الأساسي لهذه السلع. لم يعد قادراً على الحصول على سلّته الأساسية من الغذاء. مشكلته أنه بلد لا ينتج الكثير، أي لا يمكنه تعويض هذه الخسارة في الاستيراد. هي المشكلة نفسها التي قادته نحو الإفلاس. فالنموذج نفسه الذي ترك الدولة تترهل، دفع المرفأ نحو ترهل مماثل قاده نحو حتفه مباشرة، وجعلنا نبحث بيأس عن تسوّل للمساعدة. ما البديل؟ الأمر اليوم لإدارة الكارثة وغداً البحث في الخيارات البديلة.

بيروت مدينة منكوبة

يركض الشاب الذي تغطّيه الدماء بالقرب من بيت الكتائب في الصيفي باتجاه الجميزة. صديقته التي صبغها الأحمر أيضاً تجهد لإمساك يده. على الرصيف الموازي لبيت الكتائب سيارتان انقلبتا رأساً على عقب، وسيارات كثيرة مبعثرة وكأنّ طفلاً شقياً لها بها وتركها وسط الطريق. الزجاج في كل مكان. الصراخ أيضاً. صفارات الإنذار تدوّي باستمرار، قبل أن تصبح غير مسموعة وكأنها تماهت مع الضجيج الذي لفّ وسط العاصمة. بالقرب من مبنى جريدة «النهار» الذي تحطّمت واجهته بالكامل، كانت تختبئ خلف سيارة بيضاء. تنزف وتبكي وتلطم نفسها، وبالكاد تتمكن من الكلام. اسمها نينا. قالت إنها كانت ورفيقتيها، في مبنى مواجه للمرفأ مباشرة لحظة حصول الانفجار. تلك ومضات لا تلبث أن تنطفئ من حدّة الصدمة. سرعان ما تسأل أين هي وماذا حصل وما الذي أتى بها إلى هنا؟ تطلب ماء. يبحث أحد الشبان في سيارة متوقفة عرضياً في وسط الطريق عن عبوة مياه ليكتشف أن سائقتها فارقت الحياة. الكل يركض، فيما تحكم قبضتها على يد محدثها طالبة البقاء قربها. تقترب سيارة تابعة لـ«الإسعاف الإسلامي»، فيقطع الطريق أمامها أحد الشبان طالباً نقل الفتاة التي تضررت رجلها بشدة. يحملها أربعة شبان إلى السيارة. إلى أي مستشفى ستنقلونها؟ الحكومي… من حسن الحظ أن «نينا» لن تتذكر على الأرجح ما حصل.

■ ■ ■

على بعد أمتار مما كان «المرفأ »، انتشار عسكري ونيران لم تنطفئ. القاعدة العسكرية المحاذية مدمّرة بالكامل. بدا الجسر المقابل، أشبه بباحة سينما خارجية، يقصدها الناس لمشاهدة فيلم الليلة. الركام والزجاج يفترشان الزفت. يبدو المرفأ مجرد باحة لجمع الخردة، ومئات السيارات المبعثرة في وسط بيروت وضواحيها لم تعد صالحة سوى كحديد للكسر.

■ ■ ■

يكنس أصحاب المحال التجارية زجاج شبابيكهم وأبوابهم عن الطرقات. لا يدري أحد بما حصل فعلاً. المسار من «الرينغ» إلى بيت الكتائب معبّد بالزجاج والأشجار المقتلعة من مكانها. يسير أحد الشبان عاري الصدر. يحاكي نفسه. كان جالساً في مكتبه، فجأة، اهتزّ المبنى، وبعد ثوان دوّى الانفجار وأسقطه أرضاً. «في قصف إسرائيلي صار هون ما حدا يقنعني غير هيك»، يقول أحد من أتوا من الطيونة مستطلعاً. لا وقت لقاطني الجميزة وأصحاب المطاعم والملاهي في الجميزة ومار مخايل لإطلاق تحليلات. يلملمون جنى أعمارهم. لم يكن يكفي هؤلاء مصيبة كورونا والوضع الاقتصادي والإقفال خمسة أيام. أتى ما يسوّي أعمالهم بالأرض. معظمهم، على الأغلب، لن يعيد فتح أبوابه أبداً، فليعلن وزير الداخلية الإقفال التام بكل راحة هذه المرة. شوارع الجميزة الداخلية، ساحة حرب حقيقية. ثمة من افترش ركام منزله وجلس. الطرقات مقطوعة بالألواح الحديدية والزجاج المحطم. في الخلفية مشادات متنقلة، دخان، صراخ، بكاء، غضب، حطام، ظلمة ودماء لم تجف بعد. بيروت مدينة منكوبة.

لا أزمة قمح

حتى منتصف ليل أمس لم يكن مدير إهراءات القمح في بيروت أسعد حداد قد تمكّن من معاينتها، بسبب الطوق الأمني المفروض على المرفأ. لكن الصور التي خرجت من المرفأ، تؤكد أن دماراً شاملاً لحق بالإهراءات، مع وجود مفقودين ومصابين بين العاملين فيها، لم يتم التأكد من عددهم.

لكن قبل التأكد من حجم الكارثة التي لحقت بالإهراءات أسوة بكل المرفأ، وبمجرد الشك باحتمال أن تكون الإهراءات قد تضرّرت، شهدت الأفران توافداً للخائفين من انقطاع القمح وبالتالي فقدان الخبز من الأسواق.
والضرر لم يطاول الإهراءات، بصوامعها والمكاتب الإدارية والماكينات فحسب، بل طاول أيضاً باخرتَي قمح كانتا تفرغان حمولتيهما في المرفأ. فأصيب عدد من البحارة على متنهما، كما تعرّضت الشفاطات التي تسحب القمح منهما إلى الإهراءات للضرر.
بصرف النظر عن حجم الأضرار التي طاولت الإهراءات، فإن المشكلة تكمن، أولاً في تلف كل المخزون المتوفر، وثانياً في عدم القدرة على تخزين القمح لفترة طويلة، وثالثاً في عدم القدرة على استقبال بواخر قمح جديدة في المدى المنظور. لكن نقيب مستوردي القمح أحمد حطيط يطمئن إلى أنه لن تكون هنالك أزمة قمح لأن البدائل متوفرة. فالإهراءات كانت شبه فارغة، وهي لا تحتوي على أكثر من ١٥ ألف طن، لأن المطاحن، ونظراً إلى البطء في فتح الاعتمادات، تضطر في الغالب إلى تحميل الشحنات التي تصل إلى المرفأ مباشرة في الشاحنات لنقلها إلى المطاحن.

المخزون المتوفر في المطاحن حالياً كافٍ لتأمين حاجة السوق لشهر ونصف شهر

أما المخزون المتوفر في المطاحن حالياً فكافٍ لتأمين حاجة السوق لشهر ونصف شهر. كما يوجد في عرض البحر ٤ بواخر لم تتمكن من التفريغ إما بسبب تأخر فتح الاعتمادات أو بسبب انتظار دورها للتفريغ. وهذه البواخر تحتوي على 28 ألف طن من القمح. وإذا كان صعباً تفريغ حمولتها في مرفأ بيروت قريباً، فإن مرفأ طرابلس جاهز لاستقبال شحنات القمح. وهو مهيّأ لذلك تقنياً، أضف إلى ذلك أنه يستقبل شحنات قمح بشكل دوري. المشكلة أنه لا يملك قدرات تخزينية عالية، كما أن كلفة النقل منه ستكون أكبر على المطاحن. وتلك مشكلات يصفها حطيط بالبسيطة بالمقارنة مع احتمال عدم القدرة على استيراد القمح. على الأقل، يمكن تلبية حاجات السوق لأشهر من خلال مرفأ طرابلس، إذ أن القدرة التخزينية للمطاحن الـ11 العاملة حالياً تصل إلى 125 ألف طن، أي ما يكفي لشهرين ونصف شهر. أما بشأن تأمين مخزون استراتيجي، فذلك لن يكون ممكناً مع الدمار الذي طاول الإهراءات. لكن لا بدّ من الإشارة هنا، إلى أن الإهراءات لم تكن تحتوي على مخزون استراتيجي في الأساس، فبسبب تقليص الاعتمادات المفتوحة للاستيراد، كانت الكمّيات التي تصل إلى لبنان تذهب مباشرة إلى المطاحن.