المقالات

العيش (والموت) في زمن «كورونا»

كنتُ دائماً أتصوّر كيف تعاملَ الناس في القديم مع الطاعون (والعربُ تُميّز بين الطاعون والوباء) وكيف كانت تتراكم الجثث في الشوارع، من دون أن يجرؤ أحد على لمسها. خسرت أوروبا نحو ثلث سكّانها، في القرن الرابع عشر، في طاعون «الموت الأسود». وكانت نسبة الإصابة الأعلى بين القساوسة، لأنّهم كانوا يتجاهلون المصاعب ويزورون المرضى المحتضرين على فراش الموت ليسمعوا اعترافاتهم. التقدير أنّ نسبة الموت بين القساوسة كانت أعلى من ٤٠٪ (كان هؤلاء مثل الأطباء والممرضين والممرضات في عصر «كورونا»، مع فارق أنّ الطب يقدّم العلاج والرعاية، فيما يقدّم الدين شيئاً آخر تماماً)، وهذا اضطرّ الكنيسة لأن تفتي بأنه يمكن لأيّ كان («حتى النساء») سماع اعترافات المحتضرين. وكانت الطواعين تولّد حفلات من الجنون الجماعي: طاعون «الموت الأسود» أنتج فرقة سوطيّة كان أفرادها ينتقلون من بلدة إلى أخرى، حيث يعمدون إلى ضرب أجسادهم بالأسواط والمعادن، إلى أن يتقرّح جلدهم وتتفجّر دماؤهم وكل ذلك طلباً للتوبة. كان المؤمنون لا يتوقّفون عن طلب تفسير للنكبات من الكنيسة، وكانت الأخيرة عاجزة عن تقديم أجوبة مقنعة. عانت الكنيسة بعد ذلك، خصوصاً أنّ القساوسة الجدد بعد الطاعون، كانوا أقلّ تمرّساً ودراسة من أسلافهم.

وفي عصور فقر العلوم الطبيّة (كان كتاب «القانون في الطب» لابن سينا هو الكتاب المُعتمَد في كليّات الطب في أوروبا، حتى القرن الثامن عشر، وكان أوّل استعمال له في جامعة أوروبيّة، هي جامعة بولونيا، أقدم جامعة في القارة)، كان النزوع نحو تفسيرات الغيب والسحر. تحدّثت كتب التراث العربي عن عدد الطواعين، التي ضربت المنطقة منذ نشوء الإسلام. العرب منذ، طاعون عمواس، أدركوا خطر التفشّي عبر النزوح عن موقع البلدة المصابة. الغربيّون لم يمارسوا الحجر الصحّي قبل القرن الرابع عشر، لكنّ عباس محمود العقّاد يصرّ على أنّ العرب عرفوا الحجر منذ أيام الرسول (والكتابات الإسلاميّة الاعتذاريّة عن الطواعين تبالغ في نَسب إجراءات طبيّة حديثة إلى العصر الإسلامي المبكر، فيما يريد المستشرقون الغربيّون التقليل من إسهامات العرب في الطبّ، ونسبها كلّها إلى الإغريق، تماماً كما يفعلون بالنسبة إلى الفلسفة الإسلاميّة). تعامُل العرب مع طاعون عمواس، يدلّ على وعي بخطر التفشّي وعلى تطبيق ما يصفه الصديق أحمد دلّال (مؤرّخ العلوم عند العرب) بـ«الحجر الصحّي المعاكس»، أي أنهم كانوا يتركون البلدة المصابة ويتّجهون نحو البادية. وزمن الطواعين يخيف، بما يصحبه وما يتبعه من شعوذات أساطير دينيّة وغير دينيّة. يزدهر تجّار العقاقير السحريّة وواعدو المؤمنين بجنة الخلد ــ لكن مقابل أثمان، ماديّة أو غير ماديّة.
في لبنان، يصعب الحديث عن ضرورة الالتزام بالمعايير العلميّة والطبيّة. هذا بلد تكثُر فيه أحاديث العجائبيّات والمعجزات الدينيّة. زين الأتات راكم ثروة من الشعوذة، وأنا نشأتُ في لبنان أقرأ دوريّاً في جريدة «النهار» عن «اكتشاف» للبنانيّين أفذاذ أدوية للسرطان. ومارسيل غانم (أدرك الشباب اللبناني، ولو متأخراً، مدى فساد برنامجه وخطورته على العقول) كان يستضيف هو الآخر عباقرة لبنانيّين من مكتشفي أدوية للسرطان، يثني عليهم بالحماس نفسه الذي يثني فيه على الفاسدين من أصدقائه السياسيّين. والدولة تبارك المعجزات الدينيّة، لا بل إن جبران باسيل أدخل إليكم مصطلح «السياحة الدينيّة» لتشجيع المقيمين و«المنتشرين» للتبرّك من القدّيسين. والمباركة الرسميّة الفظيعة للترويج التجاري لمعجزات القديس شربل، يجب أن تُمنع قانوناً لأنها مضرّة بالصحّة وتؤدّي إلى ترك العناية الطبيّة والاتجاه نحو العناية الإلهيّة. ومثل ما حلَّ بأوروبا بعد «الموت الأسود»، ستتعاظم في بلادنا دعوات التوبة والعودة إلى الدين القويم، كما أنّ الوصفات السحريّة ستزدهر: قد يعود زين الأتات إلى الشاشة، وقد تجد مريم نور وصفات سحريّة. مقتدى الصدر دعا الدول التي سنّت حقوق زواج المثليّين، إلى التراجع عن تلك القوانين التي لامها على الغضب الربّاني (المفترض) على البشر (لكن ما تفسير الصدر لانتشار الفيروس في دول لم تسنّ قوانين زواج المثليّين؟). والطب في العصر الإسلامي شابته أيضاً علائم غير عمليّة، مثل الربط بحركة الكواكب أو نسب الطاعون إلى غضب إلهي.
وقد مرّ علينا الطاعون أوّل ما مرّ، ونحن صغار في قصيدة لأحمد شوقي يقول فيها «حلَّ بنا الطاعونُ، المرض الملعونُ» إلى أن يأتي إلى البيت الذي يقول: «إن الوباءَ يقربُ من كل قوم أذنبوا، لكنهم إن أعرضوا عنه يزولُ المرضُ». مَن يدرّس هذه القيم المخيفة للأطفال والأولاد؟ ما غرض تخويف الناشئة؟ لكن في بلادنا لا يزالون يخصّصون في حصص دراسة الدين فصولاً عن تصوير أهوال جهنّم وعذابات النار. والنفور من الفكر الغيبي لتفسير المرض لا يجب أن يذهب بنا إلى تقديس العلم والتنوير. كانت «مدرسة فرانكفورت» سبّاقة في التحذير من عصر التنوير الذي تجلّى في تطويع العلم و«العقلانيّة» لصالح المشروع النازي المروّع. وباسم العلم والطب الحديث، بدأت حكومات الغرب في الأسابيع الماضية، بتطبيق إجراءات زجر وقمع وحظر ومراقبة. بريطانيا سارعت، من دون نقاش، إلى تمرير قانون قمعي يتيح للحكومة اعتقال وعزل مواطنين لمدة غير محدّدة وفضّ احتجاجات وإغلاق مطارات ومرافئ. بنيامين نتنياهو عطّل بسرعة المحاكم في إسرائيل (تلك المحاكم التي لم تكن إلا ذراعاً للاحتلال والعنصريّة والعدوان، في ما يتعلّق بحقوق غير اليهود) وخوّل سلطات الأمن مراقبة الجميع، من خلال الهواتف، مستعيراً من قوانين الدولة لمكافحة الإرهاب (وهذه القوانين الفاشيّة لإسرائيل أصبحت منذ السبعينيّات المثال المُحتذى لدول الغرب). وزارة العدل الأميركيّة طلبت صلاحيّات استثنائيّة من الكونغرس، وتريد تعطيل القوانين ضد مهاجرين. والقيادة العسكريّة الأميركيّة قرّرت منع نشر أرقام الإصابات في صفوفها بحجّة «الأمن القومي». وولايتان استغلّتا الذعر لتقييد حقوق الإجهاض. وفي الأردن، أعلن وزير الدولة للشؤون القانونية ـــ أليس مضحكاً أنّ هناك وزارة بهذا الاسم في دولة لم تعرف حكم القانون منذ إنشائها؟ ـــ أنّ الحكومة ستلاحق الأخبار الكاذبة باسم نشر الخبر الصحيح عن «كورونا» (هذا في دولة اشتهر حاكمها الحسين بن طلال بنفي أخبار لقاءاته مع قادة العدوّ على مرّ العقود، قبل أن يعترف فيها في سيرة للإسرائيلي آفي شلايم). الذي يعيش معاناة «كورونا» مُغترباً في أميركا يعيشها مرتيْن: مرةً في الوطن الأم، والمرّة الأخرى في الوطن الثاني. وأميركا أطنبت في مديح نفسها على مرّ العقود، خصوصاً في سنوات الحرب الباردة، وزادت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لأنّ دعايتها لم تعد تتعرّض للدحض إلّا من قِبل جهاز الإعلام الضعيف التابع للممانعة العربيّة ــ الإيرانيّة. أميركا مثّلت التفوّق في كلّ شيء: هي مُنقذة العالم في الأفلام، وهي التي تتولّى بالنيابة عن نفسها حماية الكوكب وتشرف على استكشاف الكواكب الأخرى ــ أو كانت حتى وقت لم يعد قريباً. أميركا هذه بدت في أزمة «كورونا» دولة عالم ثالثية. تبرّم دعاة إمبراطوريّة الحرب، من تنامي الإعجاب الأميركي والعالمي بطريقة تعاطي الصين مع الكارثة. أميركا وكل دول الغرب، بدت عاجزة وضعيفة، ليس لأنها عجزت عن مكافحة فيروس، بل لأنها استثمرت على مدى عقود في الترويج للنموذج الرأسمالي الغربي على أنه الأصلح، لها وللإنسانيّة جمعاء. ليس العجز الأميركي مردّه شخص ترامب: المشكلة تكمن في طبيعة النظام الرأسمالي نفسه. حتى توماس بيكيتي بين كتابه «رأس المال» وكتابه الأخير «رأسمال وأيديولوجيا» يتطوّر من العقيدة الليبراليّة المؤمنة بإمكانيّة إصلاح الرأسماليّة إلى العقيدة الاشتراكيّة.

الكلام عن أن أميركا ستتجه نحو الإنسانية وتتخلّى عن سياستها الخارجيّة عن «الواقعيّة الهجوميّة» هو أضغاث أحلام

العلاقة بين رأس المال ومكافحة «كورونا» تظهر في لبنان جليّة. مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، والذي هو أشهر مستشفى في المنطقة العربيّة برمّتها، والذي يجذب ملايين الدولارات من التبرّعات سنويّاً، أظهر عجزه واختفى عن الصورة، فيما مستشفى بيروت الحكومي يتولّى شأن المكافحة البطوليّة للمرض والاعتناء الحريص بالمرضى. هذا المستشفى الذي يعاني من نقص حاد في التمويل، هو عنوان مكافحة «كورونا»، لا مستشفى الجامعة الأميركيّة، مقرّ سياحة الأثرياء الاستشفائيّة. لقد تبرّع أثرياء ساسة لبنان (من وليد جنبلاط إلى نجيب ميقاتي إلى رفيق الحريري وعائلته إلى محمد الصفدي) لصالح الجامعة الأميركيّة في بيروت ومستشفاها، لكن أيّاً من هؤلاء لم ينفق قرشاً من كنوز الفساد لدعم مستشفى بيروت الحكومي. المستشفى الأميركي الخاص، مخصّص للسياحة الطبيّة للأثرياء في لبنان والدول العربيّة، فيما مستشفى بيروت الحكومة مخصّص للبشر. يقول باحث طبّي معروف هنا، إن ما حلّ بلبنان وغياب دور مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، يجب أن يؤدّي إلى تعزيز كليّة الطب في الجامعة اللبنانيّة، وجعل تمويل مستشفى بيروت الحكومي (من مال الدولة ومن مال التبرّعات) أولويّة. كليّة الطب في الجامعة اللبنانيّة، هي التي ستكون رأس الحربة في مكافحات طواعين المستقبل. في لبنان، تزامن ظهور «كورونا» مع نشر صحيفة إسرائيليّة واحدة، خبراً بعنوان عرضي عن إمكانية توصل مختبر في إسرائيل إلى اكتشاف لقاح ضد الفيروس. لكنّ الخبر نفسه تضمّن نفياً من وزارة الدفاع الإسرائيليّة لحقيقة ذلك، تلاه تكذيب من حكومة العدوّ. إلا أنّ عُبّاد إسرائيل في لبنان سارعوا إلى نشر الخبر الكاذب، مع طرح موضوع صوابيّة مقاطعة إسرائيل كأنه لا يمنعنا عن الموت إلا اللقاح الإسرائيلي. وكان طرح عُبّاد إسرائيل (قبل أكثر من شهر) يعدنا بلقاح بعد أسبوعيْن. ومرَّ الأسبوعان ولا يزال هؤلاء ينتظرون بشوق اللقاح الإسرائيلي. (حتى الصحافة الصهيونيّة أهملت هذا الخبر هنا). واستغل الصناعي نعمة أفرام هلع الناس ليبشّر بـ«إطلاقه» (أو اختراعه حسب وسائل الإعلام اللبنانيّة) لجهاز تنفّس جديد (والجهاز ليس إلا جهاز تنفّس يصلح لشخصيْن عبر تركيب أنبوبيْن، وهذا تدبير تقوم به كل الدول التي تعرّضت لإصابات، والتي زاد الضغط فيها على أجهزة التنفّس الاصطناعي). الاستغلال السياسي والمالي لذعر الناس يدخل في طبيعة النظام الرأسمالي أيضاً.
كذلك، تحاول أجهزة الإعلام اللبنانيّة أن توازي بين تصنّعها احترام العلوم الطبيّة عبر استضافة أطبّاء متخصصين، وبين نزعتها إلى تشجيع النزعات الغيبيّة عند الجمهور، عبر استضافة منجّمين ومشعوذين ومريم نور (كيف نصنّف الأخيرة؟). وتنافست محطتا «إم.تي.في» و«الجديد»، في عقد «تليثونات» إثارة واستغلال، لجمع التبرّعات (لكن بالليرة اللبنانيّة كي يبدو المبلغ أكبر). ترضي هذه الحلول الخيريّة ضمائر، أو بالأحرى مصالح، أثرياء المحطات، لأنها توهم الناس أنّ عمل الخير من قِبل الميسورين، من شأنه إيجاد الحلول للمشاكل الاقتصاديّة. «تليثونات» لبنان سيّئة، لأنها تزهو بأرقام لا يتم التحقّق من صحّتها: هي مثل مؤتمرات جمع التبرّعات من قبل دول «أصدقاء سوريا»، أو دول «أصدقاء أفغانستان»، حيث تكون المبالغ الموعودة أقلّ بكثير من المبالغ التي تصل إلى الموعودين بها. يمكن الاستغناء عن «تليثونات» أثرياء المحطات، والاستعاضة عنها بسياسات اقتصاديّة جديدة تفرض ضرائب كبيرة على ثروات هؤلاء، وهذه الضرائب تحصد أكثر بكثير من وعود المشاهير على الشاشات (أطرف تبرّع كان لوليد جنبلاط، الذي قال عنه صديقه، مارسيل غانم، إنه كان تبرّعاً سريّاً ـــ ومن على شاشة تلفزيونيّة، وعلى الهواء مباشرة). العمل الخيري على شاشات محطات الأثرياء، هو محاولة من قبلهم لتخفيف العبء الضريبي عليهم، ولمعالجة نقمة الناس على الجوْر الطبقي.
لن تتغيّر سياسات لبنان جذريّاً. ما أن تسلّمت حكومة حسان دياب المسؤوليّة، حتى تنادت كتلة الحريري والقوات والحزب الذي لا يتورّع عن وصف نفسه بالاشتراكي، للتباكي على الاقتصاد الحرّ، والحثّ على ضرورة الخضوع لمؤسّسات الغرب، من صندوق النقد، إلى البنك الدولي، مع استقبال كل نصائح وإرشادات سفارات الغرب والخليج. لكنّ الناس، على الأقل، لاحظوا اختلال الدولة الوظيفي للقطاع العام مقارنة بالقطاع الخاص. أليس من المهين لذاكرة الناس ولتاريخ لبنان المعاصر، أن يحمل مستشفى بيروت الحكومي اسم الرجل الذي كرّس حياته السياسيّة لمحاربة القطاع العام، ولتخصيص قطاعات الدولة وأملاكها وبيعها كي تصبح ملكاً خاصاً للأثرياء الفاسدين من أمثاله؟ ما علاقة رفيق الحريري بمستشفى بيروت الحكومي، وهو الذي حارب إعلام ومدارس وجامعة الدولة، مقابل مساهمته (من جيبه ومن جيب الدولة) في القطاع الخاص في لبنان وفي الدول الأجنبية. لو أنّ الحريري تبرّع بما تبرّع به لجامعة جورجتاون (كي تقبل ابنه غير النجيب سعد في كلية إدارة الأعمال)، لمستشفى بيروت الحكومي، لكان زاد عدد الأسرّة بنحو مئة سرير. لو أنّه بدلاً من التبرّع للجامعة الأميركيّة، تبرّع للجامعة اللبنانيّة، لكانت كليّة الطب فيها تضاهي كليّات الطبّ في الجامعات الخاصّة. إن نزع اسم رفيق الحريري عن مستشفى بيروت الحكومي، يجب أن يكون أولويّة وطنيّة بعد كارثة «كورونا» (يبدو اسم مستشفى سليم الحص الحكومي أفضل بكثير).
إنّ الأزمة هذه، في أميركا أو في لبنان، هي تذكير بأنّ القطاع العام هو الذي يُنقذ، وأن القطاع الخاص يهرب عند أوّل ظهور لأزمة أو كارثة أو طارئ. الشعب الأميركي يكره بالمطلق الحكومة الفيدرالية والإنفاق الحكومي، إلا عندما تحدث كارثة في الولاية: إعصار أو زلزال. علّمهم الآباء المؤسّسون كراهيّة دور الدولة في السوق باسم الحريّة (وهي لا تعني إلا حريّة رأس المال فقط). الآن، يرصد الشعب الأميركي ما يصدر عن مؤسّساته الحكوميّة، مثل «المؤسّسة العامّة للصحّة» أو «مركز مراقبة الأمراض» (والمركزان عانيا من تناقص في التمويل في هذه الإدارة. القطاع الخاص هنا عاجز عن توفير أسرّة مستشفيات، أو آلات تنفّس اصطناعي، لأنّ كل ما يتعلّق بالتصنيع والإنتاج يخضع لحسابات الربح المادّي فقط. هذه دولة متخلّفة عن كل الدول الصناعيّة المتقدّمة في الرعاية الاجتماعيّة، ونسب وفاة الولادة للأطفال في العاصمة الأميركيّة (وغالبيّة سكّانها من السود) أعلى من تلك النسبة في كوبا. أميركا تصدّر الحروب حول العالم، فيما كانت الحكومة الكوبيّة الشيوعيّة تصدّر الأطبّاء، بالإضافة إلى دعمها نضالات الشعوب الأفريقيّة للتحرّر.
سيصبح الكلام عن أنّ العالم قبل وبعد «كورونا» كليشيه ثابتة، لكنّها صحيحة. لكنّ الكلام عن أن أميركا، مثلاً، ستتجه نحو الإنسانية، وتتخلّى عن سياستها الخارجيّة عن «الواقعيّة الهجوميّة» هو أضغاث أحلام. لن تتعامل أميركا مع العالم على أنه واحد، أو أن شعوبه متساوية. في الوقت نفسه الذي كان يتراكم فيه عدد موتى الـ«كورونا»، كانت الحكومة الأميركيّة (وبرضى الحزبيْن) تتشدّد في فرض العقوبات على إيران، وتمنع الدعوات العالميّة لفتح المجال أمام مدّ العون الطبي والإنساني للشعب الإيراني. هناك من وجد فرصة لزيادة عدد الموتى في إيران. أميركا اختارت، أيضاً، أن تضع ثمناً على رأس مادورو في فنزويلا، كما كانوا يضعوا أثماناً على رؤوس المطلوبين في الغرب الأميركي. عسكرة السياسة في أميركا لم تختفِ: وسائل الإعلام احتفلت بوصول سفن مستشفيات عسكريّة من الجيش الأميركي إلى كاليفورنيا ونيويورك، وبأنّ قطاع الهندسة في الجيش الأميركي أنشأ مستشفى ميدانياً في مدينة نيويورك. لكن لو أنّ القطاع الصحّي هنا لا يسعى إلى الربح، لكان عدد الأسرّة كافياً ولما كانت هناك حاجة لسفن الحرب الأميركيّة. لكن ما حاجة الأسرّة إذا كانت تفيض عن حاجة المرضى لها، حسب المعيار الرأسمالي؟ ليس الاقتصاد الرأسمالي معنياً بالأزمات وحالات الطوارئ، أو التخطيط المركزي للصالح العام. هذا يتناقض مع مفهوم حريّة السوق في العرض والطلب. ولهذا، فإن تعاطي حكومة الصين المركزي لاقى استحساناً هنا. تزداد الحلول الاشتراكيّة التأميميّة شعبيّة، عندما يتعلّق الأمر بإنقاذ الوظائف أو إنقاذ صناعات من الإفلاس. عندها فقط، لا يعترض الشعب الأميركي على الاشتراكية، وعلى دور الدولة في السوق أو على حجم النفقات، لأنّ المواطن يشعر أنها ستفيده هو، لا جاره أو فقيراً أسود في وسط مدينة ما.
يُخطئ من يظن أن كارثة «كورونا» ستضفي لمسة إنسانية على دول الغرب، خصوصاً إمبراطورية الحرب الأميركية. على العكس، فإنّ عذر مكافحة الفيروس سيُضاف إلى عذر مكافحة الإرهاب، من أجل تعزيز تسلّط الدولة على المجتمع. والفروقات الطبقيّة ستزداد وضوحاً ورسوخاً، بعدما كان أمر سترها أسهل في الماضي السحيق قبل عقود: أصبحت الحدود الجغرافيّة بين أماكن سكن الأثرياء وباقي الناس أصلب وأقسى: هناك ما يُسمّى هنا «سكن ما وراء الأسوار»، وهم يعنون بذلك أسواراً حديديّة مكهربة، لمنع تنقّل الناس أو وفود الفقراء وعائلات الطبقة المتوسّطة إلى أماكن سكن الأثرياء. يستعيضون عن ذلك في لبنان، بأسوار القصور وبحراس شخصيّين لمنع المتطفّلين. حرّاس وليد جنبلاط وحرّاس نبيه برّي وحرّاس سعد الحريري، اعتدوا على المتظاهرين بمجرّد أن اقتربوا من أسوار قصورهم.
الرأسماليّة في حرج، وحرجها ازداد بعد «كورونا». تقرأ بعض السذّج على مواقع التواصل يقولون بلسان الأثرياء ـــ وهم ليسوا منهم ـــ إنّ الخطر جمع بين الجميع، ووحّد بين الفقير والغني. قررتُ أن أجري مقارنة ديموغرافيّة لأماكن إصابة «كورونا» في القضاء الذي أعيش فيه هنا في كاليفورنيا. وجدتُ أنّ معظم الإصابات (نحو تسعين في المئة) تقع في المنطقة الأفقر، وكذلك الأمر في أقضية أخرى في الولاية. وكما للأثرياء مستشفيات وأسرّة خاصّة بهم، كذلك الأمر في أميركا. الأثرياء سيلقون من العناية أكثر من الفقراء، وقرارات الاستنسابيّة في تقديم العناية الطبيّة للمرضى ستفيد الأثرياء أكثر بكثير من الفقراء. الأثرياء أكثر قدرة على تلقّي الفحص من الفقراء. الفروقات الطبقيّة في الرأسماليّة ظاهرة في كل جوانب الحياة ولن يوفّرها المرض. قد تكون هناك مساواة في طواعين القرون الوسطى، لكن اليوم الأمر يختلف. ووجود العوارض الأخرى الصحيّة عند الفرد، والتي تزيد من إمكانيّة وفاة المصابين بـ«كورونا»، هي أيضاً تصيب الفقراء أكثر من الأثرياء الذين يتمتّعون بنظام عيش أكثر صحيّة من الفقراء.
نحن في حجر صحّي هنا، لكن لا يمرّ يوم لا أغادر فيه المنزل. إلّا أنّ الانطوائيّين مثلي ــ كما كتب عامر محسن قبل أيّام ــ لا يلاحظون، كما غيرهم، تأثير الحجر. تخرج وحيداً وتعود وحيداً وتتسوّق بعيداً عن البشر. الناس هنا في حالة استرخاء: كان عليّ، وأنا العربيّ المشبوه، أن أصيح بالواقفين في الطابور أمام مخزن التسوّق: يا قوم. يا قوم. أين مسافة ستة أقدام بيننا؟ لعلّ الخطر الداهم يصيب الناس بنوع من الاستسلام. وقد لاحظ استطلاع «بيو» أنّ الذين يصلّون، يقومون بذلك أكثر هذه الأيّام، ولاحظ أنّ ١٥ ٪ من الذين لا يصلّون عادة، يصلّون هذه الأيام، وأنّ ٢٤٪ من الذين لا ينتمون إلى دين يصلّون هم أيضاً. هل يزداد عدد المؤمنين بعد دفن ضحايا «كورونا» أم أن الناس سيكفرون أكثر تشكيكاً بالعدالة والحكمة الإلهيّة؟ لكن ليس هذا وقت المراجعة. لم ينتهِ إحصاء الضحايا، ولم تنتهِ مراسم دفن الأموات، وبعض البلدان تخلّت عن مراسم الدفن بسبب العدد الهائل من الموتى. لكن لو نجينا من هذا الفيروس، نحتاج إلى أن نتباحث يوماً ما في مغزاه، ولو كان بعضنا غائباً فليتباحث من بقيَ منا حياً، أو من بقيَ منا حيّاً لكن من دون أن يكون قد فقد قواه العقليّة.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)