الاخبار الاخبار السياسية الدراسات

فلسطين… بلا خط أحمر!

بعدَ ساعات على عرض مشاهد توثّق العملية التي نفذتها المقاومة أول من أمس ضد آلية عسكرية إسرائيلية على طريق ثكنة «أفيفيم»، رداً على استشهاد مقاوِمَين بغارة اسرائيلية في سوريا، أطل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أمس، معلناً إفشال هدف العدو «بتوهين توازن الردع» لأن العملية التي جرى تنفيذها كسرت «أكبر خط أحمر» إسرائيلي بأنْ ردّت المقاومة ضمن حدود 1948

أكّد الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أمس أن المقاومة أعادت تثبيت معادلة الردع مع العدو لحماية لبنان. ولأجل ذلك، لن يكون أمام حزب الله أي خط أحمر، في حال حاول العدو مجدداً الاعتداء على لبنان او التسبب باستشهاد مقاومين في سوريا.

في إطار تعليقه على العملية التي نفّذتها المقاومة الاحد الماضي باستهداف آلية لجيش الاحتلال عبر الحدود اللبنانية – الفلسطينية قبالة بلدة مارون الراس، توجه نصر الله، في خطاب الليلة الثالثة من عاشوراء، أمس، بالشكر الى «المقاومين والمجاهدين القادة والأفراد والمسؤولين، لأنهم منذ 8 أيام إلى اليوم كانوا حاضرين وجاهزين على مدار الساعة وفي الميدان، وعلى امتداد الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، والذين بسبب حضورهم وجهوزيتهم وشجاعتهم وكفاءتهم وتضحياتهم تتحقق الإنجازات، ويتم تثبيت المعادلات التي تردع العدو وتحمي البلد». وشكر الجيش اللبناني «الذي بقي مرابطاً على امتداد الحدود لمواجهة العدوان»، و«الرؤساء والمسؤولين في الدولة والوزراء والنواب الذين وقفوا بجانبنا وتحملوا مسؤوليتهم الوطنية».
وفي معرض شرحه لمجريات الأمور، أكد نصر الله أن «العملية لم تكن فقط أمس، بل من يوم الخطاب يوم الأحد الماضي إلى ما بعد العملية التي نفذت»، مشيراً الى أن «ما حصل بدأ ليلة الأحد وتمثل بحادثتين. الأولى من خلال الغارات الاسرائيلية والقصف الاسرائيلي في محيط دمشق ما أدى إلى استشهاد عنصرين، وما تلاها بعد ساعات قليلة أي عملية المسيّرتين المفخختين في الضاحية الجنوبية». وأضاف «من المعروف أن الاولى سقطت ولم تحقق ما أرسلت من أجله، والثانية التي أرسلت لتنجز هدفاً محدداً فشلت في تحقيق الهدف الذي جاءت لإنجازه، فكانت عملية فاشلة». وقال: «نحن من الساعات الأولى أعلنا أننا لن نسكت، ولن نقبل بفرض معادلات جديدة ولن نقبل بتضييع انجازات الصمود ولذلك قلنا اننا سنرد قطعاً»، موضحاً أن الرد من عنوانين: «عنوان ميداني على الحدود مع فلسطين المحتلة، والثاني يرتبط بملف المسيرات الإسرائيلية في سمائنا». وأضاف: «لقد قلنا مباشرة وبشكل علني وواضح أننا سنرد من لبنان وقلنا للعدو أن ينتظرنا وهذه نقطة قوة للمقاومة وكان من الممكن أن نسكت وأن لا نكشف عن النوايا، ثم نفاجئ العدو. لكننا منذ اليوم الأول قلنا له أن ينتظرنا وهذا تحد كبير من المقاومة». واعتبر أن ما حصل منذ يوم الخطاب الأحد الماضي حتى يوم أمس كان عقاباً للعدو الذي قام بإخلاء القرى الحدودية مع لبنان بشكل كامل ولم يكن هناك تواجد لأي جنود أو آليات على الطريق الحدودية، كما قام بإخلاء مواقع أمامية بشكل كامل، «وأنا قلت لهم انضبّوا لكنهم هربوا. وهناك ثكنات عسكرية إسرائيلية تم إخلاؤها على الحدود، وانعدام للحركة بعمق من 5 إلى 7 كم داخل الأراضي المحتلة خلال الأسبوع الماضي بشكل كامل».

احفظوا تاريخ 1 أيلول 2019 لأنه بداية مرحلة جديدة

نصر الله الذي أكد أن المقاومة عمدت الى شنّ العملية في وضح النهار وليس في الليل رغم الفرص المتوفرة في هذا الوقت، وأنها ضربت في عمق معين بالرغم من كل الاجراءات والتدابير»، أشار إلى أن «أهم ما حصل هو الإقدام ونفس القيام بالعملية رغم كل التهديدات الإسرائيلية»، مُضيفاً أن «المقاومة ضربت هدفها وأصابته إصابة دقيقة». ولفت الى أن «اسرائيل التي تقول انها الجيش الأول في المنطقة هذه الدولة المتعجرفة الطاغية التي كانت تخيف مئات الملايين خلال ايام كانت خائفة وقلقة ومضبوبة وهذا ذل وهوان»، مشدداً على «أكبر خط أحمر إسرائيلي منذ عشرات السنين كسرته المقاومة الإسلامية، لأن المقاومة كانت سابقا تردّ داخل مزارع شبعا المحتلة أما اليوم فنرد من خلال حدود 1948 التي تعتبرها إسرائيل خطاً أحمر». والجديد في الأمر هو «أننا انتقلنا من الرد في أرض لبنانية محتلة إلى أرض فلسطين المحتلة». وبينما اكد أن لبنان كان قوياً ومتماسكاً في عملية الرد على العدو الصهيوني وفي تغطيتها، أضاف «ليس فقط حزب الله لم يتزحزح من التهديدات الإسرائيلية بل أيضاً كل المسؤولين اللبنانيين»، كاشفاً أن الإسرائيلي «بذل جهده لاستيعاب العملية وقصفه الأراضي اللبنانية كان لأهداف دفاعية».
وتوجه نصرلله للصهاينة بالقول «إذا اعتديتم فإن كل جنودكم ومستعمراتكم في عمق العمق ستكون ضمن أهداف ردنا، احفظوا تاريخ 1 أيلول 2019 لأنه بداية مرحلة جديدة من الوضع عند الحدود لحماية لبنان. الأول من أيلول بداية لمرحلة جديدة للحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة وليس هناك خطوط حمر، وفي الدفاع عن لبنان ليس هناك خطوط حمر. نحن في مساحة عمل جديدة هي مواجهة المسيّرات الإسرائيلية في سماء لبنان».وفي ما يتعلق بمواجهة المسيّرات أكد أن «الموضوع هو بيد الميدان»، مشدداً على أن «السماح لإسرائيل بانتهاك سيادتنا انتهى». وقال إن «الحريص على استقرار لبنان يجب أن يقول للإسرائيليين انتهى زمن السماح لمسيّراتكم بخرق سيادتنا»، مؤكداً إننا «سننتهي من هذه الجولة إلى موقع جديد وأقوى وقد منعنا نتنياهو من توهين توازن الردع».

عملية طريق «أفيفيم – ييرؤون»: الجنود هربوا قبل أن يفتحوا «أبواب النار»!

لم تفلح خطة قيادة المنطقة الشمالية بإخفاء الأهداف «الحقيقية» عن المقاومين الذين كانوا يترصّدون تحركات العدو «النادرة»، من نقاط المراقبة البرية وعبر الطائرات المسيرة. ورغم التزام تشكيلات جيش العدو المنتشرة في المنطقة الشمالية بأوامر قيادة المنطقة إخلاء المواقع على طول الحافة الحدودية مع لبنان، وتجميد الدوريات الروتينية والتفقدية، حتى عند ورود إنذارات من السياج الحدودي؛ تمكّنت المقاومة من انتخاب منطقة العمليات المناسبة، وانتظار الهدف حتى وصوله الى نقطة الاستهداف على الطريق (899)، الواصل بين مستوطنتي أفيفيم وييرؤون، والذي يعتبر طريقاً خلفياً محمياً لا تظهر منه للجهة اللبنانية إلا مساحة قصيرة لا تسمح باستهداف «سهل» ومريح.

قرابة الرابعة عصر السبت، كانت الآلية العسكرية الإسرائيلية من طراز «وولف» المتعددة الإستعمالات، تقطع الطريق 899 بسرعة متوسطة، قادمة من الجهة الشرقية لمستوطنة أفيفيم، وتحديداً من جهة مستوطنة المالكية لتجتاز الطريق الخلفية هبوطاً خلف أفيفيم، ثم انعطافاً عند المنطقة المعروفة بـ«مغاير صلحا»، وصعوداً نحو الطريق المحاذي لمستوطنة ييرؤون، وهناك كانت نقطة المقتل. في المقطع الذي نشره الإعلام الحربي، أمس، تظهر الآلية العسكرية متجهة صعوداً، بسرعة متوسطة. وقبل أن تنعطف وتتوارى خلف المنطقة الحرجية في ييرؤون، أطلق المقاومون صاروخاً مضاداً للدروع من طراز «كورنيت» الروسي (مداه يصل الى 5500 متر) نحو الهدف، من المربض الأول، تبعه صاروخ من مربض آخر، ليتجه الصاروخان نحو هدفهما وينفجران تتالياً.

في التفاصيل العسكرية للعملية، بدا لافتاً أن المسافة المكشوفة من الطريق، بالنسبة الى الجهة اللبنانية، لا تتجاوز 300 متر، وهي مسافة قصيرة بالنسبة لرامي صاروخ «كورنيت»، إذ أن آلية العدو المستهدَفة كانت تتجاوز نطاق الاستهداف بسرعة، ما يجعل تسديد الصاروخ وإطلاقه، ثم متابعة توجيهه نحو الهدف، مهمة صعبة تحتاج الى رماة متمرّسين، خصوصاً اذا ما لحَظنا المسافة التي قطعها الصاروخ، والتي قاربت 4 كم (مسافة طويلة نسبياً) بحسب المعطيات التي نشرها الإعلام الحربي. الى ذلك، وبحسب زاوية الرماية التي ظهرت في الفيديو الذي حلّله إعلام العدو مباشرة، خلص المحلّلون العسكريون الإسرائيليون الى أن نقطة انطلاق الصاروخ الذي ظهر مكان انطلاقه في الفيديو، هو من مكان بين الأشجار في أعلى «جبل الباط» المقابل في بلدة عيترون المحاذية لمارون الراس. ورغم أن الجبل محاذٍ للحدود تماماً، ويقع تحت أعين العدو بشكل دائم، إلا أنه لم يتمكن من اكتشاف المقاومين الذين انتشروا عليه، وجهزوا للعملية، ونفذوها ثم انسحبوا، من دون أن يصاب أحدهم ولو بـ«خدش»، رغم الرمايات المدفعية الكثيفة التي أطلقها العدو نحو مناطق محيطة، والتي لم تصب سوى مناطق حدودية مفتوحة، كان يخشى العدو أن يتقدم مقاومون عبرها نحو المنطقة الحدودية المقابلة التي كان قد أخلاها مسبقاً.
كشفت عملية الرد ضعف تحصينات العدو وهندساته الدفاعية، وعقم خططه التي كثّفها في السنوات الماضية، بهدف تطمين سكان المستوطنات الحدودية ورفع معنويات جنوده على امتداد الجبهة الشمالية. من يشاهد كيف أُخليت، بطريقة غريبة، قاعدة أفيفيم العسكرية الحدودية، مقر قيادة قوات اللواء الغربي (برعام) المسؤول عن حماية الجهة الغربية ضمن منطقة مسؤولية فرقة الجليل (91) المنتشرة في كامل الجليل المحتل، والتي تمتد منطقة مسؤوليته وحيداً على ما يقارب 20 كم من الخط الحدودي، لا يصدق أن هذا اللواء نفسه، الذي شوهد جنوده يختبئون بين المنازل في المستوطنة، كان بداية هذا العام قد أعلن عن تشكيل كتيبة احتياط جديدة، سميت «أبواب النار»، بهدف الدفاع عن المنطقة الحدودية مقابل «خطر اقتحام مقاتلي حزب الله الجليل». يومها، وقف قائد لواء برعام، الكولونيل روي ليفي، خلال حفل تشكيل الكتيبة الجديدة، ليقول لجنوده إن مهمة الكتيبة «تتمثل أولاً في الدفاع عن المجتمعات والمواقع العسكرية الأقرب إلى الحدود (…) ثم بمجرد أن يتم تأمين هذه المواقع، يُفترض بالوحدة شن الهجوم على حزب الله داخل لبنان». ربما لم تكن هذه المرة الفرصة مؤاتية لتطبيق الخطة، ولو بالمهمة الأولى، ولاختبار قدرات الكتيبة الجديدة. لم يحتاجوا المواجهة. لا لشيء، سوى لأنهم قد هربوا فعلاً، تاركين المستوطنين لمصيرهم، قبل أن تبدأ أي معركة.

جيش الفرار الإسرائيلي

يكفي المرء أن يشاهد “النزهة” الصحافية التي أجرتها مراسلة محطة RT في ثكنة أفيفيم العسكرية أمس، وببث مباشر، ليخرج بأحد أبلغ المفارقات – النتائج التي تمخضت عنها الجولة الباردة – الساخنة التي جرت بين المقاومة وإسرائيل خلال الأيام الأخيرة. في الحالة “التقليدية”، من المفترض أن ينبري أي جيش “طبيعي” إلى رفع مستوى جاهزيته في مواجهة تهديدٍ من النوع الذي أعلنته المقاومة في وجهه، حتى لا نبالغ في مستوى التوقع ونقول إن المنطق العسكري يفرض عليه السعي إلى العمل بشكل وقائي أو استباقي أو حتى استعراض ردعي للقوة. وتشمل هذه الجاهزية عادةً – بحسب المصطلحات العسكرية – تعزيز الموقف الدفاعي الذي يهدف إلى إحباط التهديد من خلال صدّه حالَ تحققه وتكثيف إجراءات الحماية والتأمين لأجل تحصين القوات من الاستهداف.

في الحالة الإسرائيلية – اللبنانية، الجيش الذي يفاخر عند كل صيحة ديك بأنه الأقوى في المنطقة، يبتدع نظرية جديدة في العلوم العسكرية تقوم على تصفير الأهداف أمام التهديد، لكن ليس من خلال الحماية والتأمين والمناورة في الحركة، بل من خلال إجراءٍ أساسي وحيد هو: الفرار.
وعبارة الفرار تنطبق هنا، لأن الجيش الإسرائيلي لم يهجر فقط مواقعه الأمامية ويتركها شاغرة من عناصر الحراسة والمراقبة، بل حوّل ثكناته وقواعده الواقعة ضمن حقول الرؤية والرماية التي تطل عليها الحدود اللبنانية إلى مبانٍ مقفرة تشبه تلك التي نشاهدها في الأفلام الأبوكلابسية. حظُّ ثكنة أفيفيم العاثر جعلها فريسة لكاميرات الإعلام والمقاومين، لكنّ العارفين يروون أن هذا كان حال مواقع “العبّاد” و«معيان باروخ” و”الراهب” و”رويسات العلم” و”زرعيت” وغيرها.
لكن الجيش الإسرائيلي لم يكتفِ بذلك فحسب، بل لجأ إلى تقديم أهداف وهمية للمقاومة علّها تفديه من نقمتها، وعندما لم ينفع ذلك ووقع المحظور، قدّم رواية “التمثيل” التي تناقلتها وسائل إعلامه، وفحواها أنه تظاهر بإخلاءٍ مروحي لإصاباتٍ من موقع العملية، لإيهام المقاومة بإنجازٍ مبدئي يمنحها التعويض المعنوي والردعي الذي تتوخاه من وراء العملية التي نفذتها.
والحقيقة أنه لا يمكن تخيّل شيء أكثر فضائحية للجيش الإسرائيلي من رواية التمثيل هذه. فهي إن لم تصح، تعني أن الجيش يكذب بشأن عدم وجود إصابات، وإنْ صحّت، فتعني أنه آثر التضحية بهيبته على مذبح تهيّبِه حزب الله في سياق السعي إلى إرضائه وإخماد غضبة الإقتصاص لديه.
وفي عالم التوازنات العسكرية، لا يوجد شيء أكثر محقاً لبأس الجيوش من سقوط هيبتها. عندما يسمح أي جيش لنفسه بأن يتجرد من هيبته، فإنه يجرد نفسه من ثقته بنفسه وثقة شعبه به؛ والطريق من هنا نحو الهزيمة في ساحة المواجهة تضحى أشبه بساعة رملية متناقصة.
وحتى تكتمل سريالية المشهد، لا بد من التوقف عند لجوء أفراد الجيش الإسرائيلي إلى ارتداء اللباس المدني (كما قالت مراسلة RT) للتحرك في مقابل الحدود مع لبنان، محتمين بذلك من استهداف المقاومة. المسألة هنا تتجاوز الجانب الشكلي وتضج بما يشبه الانقلاب المفاهيمي. الجيش الذي تقوم فلسفة وجوده على حماية المدنيين، يسعى إلى حماية نفسه بالتستر (وإن شكلاً) بهم.
احتفلت إسرائيل أول من أمس بعدم وقوع إصابات (كما زعمت) وعدَّته الإنجاز الأهم في جولة الأيام السبعة الأخيرة التي خاضتها مع حزب الله. في سبيل “تحقيق” هذا الإنجاز ارتضت الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط أن يكون جيشها متوارياً، هارباً ولائذاً على حدودها الشمالية، وأن يستعين بقفشات هوليوودية لمنح عدوّها نصراً يسعى إليه افتداءً لجنودها من قصاصه. المفارقة الجوهرية الأبرز في ما حصل، هي أنه فيما كان الجيش الإسرائيلي يمثّل مشهد الخسارة لتحقيق الإنجاز، كانت المقاومة تُمَسرِح مشهد الإنجاز لتكريس انتصارها في وعي ذاتها وشعبها وأمتها، وقبل كل ذلك في وعي عدوّها المنهزم.

إسرائيل الجديدة!

لم يسبق لإسرائيل بما تمثله أن كانت بهذا الهزال! فالمحمية التي وُلدت من رحم الإرهاب المجنون، في الأيام الأخيرة التي تلت تجرّؤها على العبث بالقواعد الحاكمة التي سبق للمقاومة أن فرضتها، عبر استهدافي الضاحية ودمشق، بدت كنمر من ورق. إن لم نقل جرواً مذعوراً يسأل استنزال الدعم من عواصم «القرار»، وملحقاتها الإقليمية الذليلة (لم يتأخر وزير الخارجية البحريني عن تكرار تظهيره بصفاقة موصوفة).

وعليه، ومن غير مبالغة أو تسرّع، واستناداً إلى الوقائع التي تلت «العبث» الإسرائيلي الأخير، أو تلك التي سبقت الردّ (لم يقو أحد في «العالم» على منعه أو الحؤول دونه)، يمكن اعتبار الأول من أيلول ٢٠١٩ (تاريخ تنفيذ الردّ) بمثابة التأريخ المرجعي لولادة إسرائيل أخرى، أو لنقل إسرائيل جديدة. والأرجح، وهو ما ستبيّنه الأيام والأسابيع المقبلة، أن هذا التاريخ لن يكون قليل الحضور عند التأريخ لمقدمات وأسباب النهاية المحتومة لكيان استُدخل قسراً في نسيج المنطقة، لكنه عجز، وبالرغم من كل أُتيح له، عن الاستمرار. فكان الموت المحتوم على يد مقاومة شعبية استبطنت الانتصار وامتلكت أسبابه وهيّأت لها.
فالكيان الذي اعتاد التهديد والوعيد والضرب والقتل يميناً ويساراً، بل وحيثما كان يخطر له، بدا خلال الأيام الأخيرة، مقيّداً وملجوماً، بل و«مسبوعاً» كما لم يحدث من قبل، حتى لا نقول إنه بدا عاجزاً كل العجز. ولم يقيّض لكل أسباب القوة العسكرية وعناصرها التي تشمل كل ما هو متطور وحديث ومتقدم في ترسانة الموت الغربية أن تفلح في فرض أو ترميم المنعة التي طالما كانت للكيان. بل أن الكيان، كل الكيان، عاش أياماً تاريخية تجلّت، أكثر ما تجلّت، في تهيّب المواجهة الواضح، والخشية، والتواري الكامل خلف التحصينات والدشم العسكرية والسياسية في الإقليم والعالم.
إن صورة إسرائيل التي وصلت إلى العالم هي صورة الجرو المتسخ الذي أرعبه ذيله المجدوع فحار في كيفية مواراة نفسه عن الأنظار فجعل يصدر أصواتاً غير مألوفة.
وهنا، ومن باب التذكير يجدر الإشارة إلى جملة من العناصر التي ربما فاتت أعتى «المحللين» والسياسيين الإسرائيليين، من الذين راحوا يفاخرون بانعدام الإصابات في صفوف القوة المستهدفة. فالهدف المرحلي الذي حدده السيّد حسن نصرالله، في خطاب الردّ، كان واضحاً ومختصراً. وهو منع إسرائيل من تجاوز المعادلة التي كان سبق للمقاومة أن أرستها في مراحل المواجهات السابقة، حتى لو قاد ذلك إلى مواجهة شاملة، ثبت، وبالملموس، عجز العدو عنها برغم كل ما يملكه. والأمر الآخر، وهو الأهم، إن الردّ الذي توعدت المقاومة به لا يعني الردّ للردّ فحسب، بل كان يتجاوز هذا الأمر ليصل، وهو ما تحقّق، ومن دون أدنى جهد، بسبب من حزم الإرادة وشجاعة القرار إلى إرغام العدو، وكل من معه، على التسليم بحرمة الأرض ومعها الدماء اللبنانية، والكلفة الباهظة التي يمكن أن تترتب على أي خرق لها. ومن شأن القراءة الأولية للعملية ولسياقاتها أن يكشف أن الرد، على أهميته وضرورته، لم يكن هدفاً بذاته، بل كان تعبيراً عن أفق هذه المقاومة وجذريتها في المواجهة التي لن تتوقف إلا بمحو هذا الكيان محواً لا عودة بعده.
إن حال الذعر والقلق المديدين التي عاشها من في الكيان على مدى أسبوع أو أكثر ليس بالأمر البسيط، ولا بد للدارسين والمحللين من التوقف عنده. وسيكون تجاهل هذه الجزئية غير العادية، مستقبلاً، في غير محله تماماً. فهذه الجزئية تشي بالكثير عن الحال الذي صار إليه الكيان برمّته، بعد طول أمان واطمئنان. فالأمان ومعه الاطمئنان كانا جوهريين في مسيرة هذا الكيان، بل وواحداً من «الضمانات» التي أطالت من عمره، وتجريده منها اليوم، وهو ما تمّ بنجاح غير قليل، يفتح الباب أمام تجريده مما هو أكبر وأعظم، وهو ما تزداد المؤشرات على إمكان تحقيقه.
إنها المرة الأولى التي يسيطر فيها الخوف الإسرائيلي ويتجسّد في صورة فاقعة عكستها سلوكيات قادته السياسيين والعسكريين. وظهر أنه خوف عميق. فالقرار بالرد ثم تحققه اعقب انتظار وترقب وحبس أنفاس إسرائيلي غير مسبوق. وسيكون لذلك الاثر في الوعي الإسرائيلي الجمعي.
ما قامت به المقاومة بعد ظهر الأحد، يندرج في باب أقل ما يقال فيه إنه فتح صفحة جديدة في المواجهة المفتوحة والتي تزداد المؤشرات، كما المعطيات، على قرب حسمها لصالح المنطقة وأهلها.
لقد كُتب، مرة جديدة، لإرادة المقاومة أن تنتصر، وأن تفرض على العدو، ومن معه، التسليم والإذعان. وهذا ليس بالتفصيل البسيط. ومن شأن أي مراجعة لمحطات المواجهة مع هذا العدو أن تشي بأهمية هذا المعطى الذي كان واحداً من أسباب التفوّق الإسرائيلي الموهوم. وستكشف الأيام المقبلة أن الردّ الذي تحقّق ستكون له مفاعيل وتأثيرات ذات وزن حاسم، لن يتوقف عند حماية المعادلات القائمة فحسب، بل سيطاول فرض ما هو جديد ونوعي، وأول هذا الجديد والنوعي سيكون الارتداع الإسرائيلي عن استباحة السماء اللبنانية، وهو ما قالته المقاومة ووعدت به، وهو ما سيقود، حتماً، إن تحقّق سواء بشكل كلّي أو جزئي، إلى انسداد آخر في شريان إضافي من شرايين هذا الكيان.