المقالات

كيف تربح إيران الحرب؟

صحيح أن التوتر في المواجهة بين أميركا وإيران آخذٌ بالتصاعد المستمر، ولا سيما سياسة الحصار وتشديده على إيران، ولكن بالرغم من ذلك، فالرأي الغالب من خلال التصريحات الرسمية الإيرانية والكثير من خلال الإدارة الأميركية، والمعلقين عموماً، يميل إلى استبعاد الحرب، وترجيح التوصل إلى تفاهم ما، أو القبول باستمرار المواجهة الراهنة وما يصحبها من توتر وتصعيد إلى أمدٍ طويل قادم. وبالطبع ثمة الكثير من الحجج التي تقدم لدعم هذا الرأي الغالب، سواء أكان استناداً إلى الموقف والرغبة إيرانياً، أم استناداً إلى الموقف والرغبة أميركياً.

ولكن، مع ذلك، لا يستطيع أحد أن يستبعد نهائياً احتمال تطور المواجهة إلى حرب أو إلى مواجهات عسكرية، دون الحرب الشاملة. فضلاً عن أن القيادات المسؤولة لدى الطرفين، ولا سيما القيادة الإيرانية التي يجب أن تكون مستعدّة لاندلاع الحرب، في أي لحظة، مهما كانت القناعة، أو كان تقدير الموقف يستبعدانها، أو يرجّحان عدم اندلاعها. فكيف يمكن الاطمئنان لأميركا، وعدد الحروب التي شنتها تزيد عن عدد السنين منذ استقلالها. ثم كيف يمكن عدم التحسّب من إمكان تداعي الردود المتبادلة التي دون الحرب إلى مستوى الحرب. ثم ثالثاً كيف يمكن تجاهل إعلان ترامب بأنه قرر شن عملية عسكرية ثم تراجع عنها قبل عشر دقائق من انطلاقها.
وهنا أيضاً ثمة حجج كثيرة يمكن إيرادها في إبقاء احتمال اندلاع الحرب قائماً أو وارداً، وفي مقدمها الانطلاق من أن الحصار نفسه هو حرب أو لون من ألوان الحرب، خصوصاً حين يذهب إلى أقصاه، بما يعادل الحكم بالإعدام. ومن ثم إلى أيّ حد يمكن لإيران أن تحتمل الحصار إذا وصل إلى حدّ الخنق الكامل كما يعلن ترامب؟ وكذلك إلى أيّ حد يمكن لأميركا أن تكتفي بالحصار إذا استطاعت إيران اختراقه والتعايش معه، والمضي في برنامجها الصاروخي، وفي دعم المقاومة في لبنان وقطاع غزة، وتعزيز الاستعدادات الصاروخية العسكرية السورية؟
نستطيع أن نتصور كيف ستمضي الأمور إذا استمرت المواجهة كما خبرناها منذ سنوات حتى الآن، ولا سيما في السنتين الأخيرتين. لأننا عشناها، ولا مشكلة إذا زادت هنا وهناك كمياً، وبقيت تحت سقف دون الحرب. ولكننا نحتاج إلى جهد وخيال لنتصور كيف ستمضي الحرب إذا اندلعت، ولا سيما إذا واجهت أميركا في الحرب جبهة مقابلة غير الجبهة التي قابلتها في الحرب ضد أفغانستان 2001، أو العراق في الحربين 1991 و2003.
الفارق هنا مؤكّد لأكثر من سبب: (1) اختلاف ميزان القوى العالمي، والوضع العالمي والمناخ السياسي العام في غير مصلحة أميركا. (2) ثمة تراجع ملموس في القدرات الأميركية (والجيش الصهيوني) ليس من جهة مستوى التسلح أو التكنولوجيا العسكرية، وإنما على مستوى الجندي والضابط والرأي العام الداخلي. (3) تمتلك إيران خصائص مميزة من ناحية القيادة والقدرات العسكرية الشعبية والنظامية، وما أمّنته من إعداد متنوع الأبعاد للحرب، والبنية التعبوية، فضلاً عن جبهة مقاومة لا تتركها وحيدة في مواجهة الحرب.

نحتاج إلى جهد وخيال لنتصور كيف ستمضي الحرب إذا اندلعت

المهم اليوم أن الحرب إذا اندلعت بين إيران وأميركا لن تكون تكراراً لحروب أميركا مع العراق وأفغانستان (التناول هنا في حدود العقدين الماضيين) ومن ثم لا بدّ من إعمال الخيال (استخدام شائع في فن علم الحرب) وتوقع السيناريوهات، أو تقدير الموقف.
إن أوّل ما ستفعله أميركا إذا اندلعت الحرب أو قبيلها بأيام أو ساعات، ستوصل رسالة إلى إيران مفادها «أنكم إذا رددتم بكذا وكذا فانسوا طهران. بمعنى سوف نرد بالقنبلة النووية». ففي هذه اللحظة بالذات سيتقرر مصير الحرب أو اتجاهها. فإذا كانت إيران مستعدّة لهذه اللحظة، ويجب أن تكون مستعدة، ويجب أن يكون ردها حاضراً. وهو عدم الخوف من استخدام القنبلة النووية، وإبلاغ أميركا أن الحرب إذا وقعت، فإيران وحلفاؤها يجب أن ينتصروا بها مهما بلغت التضحيات والخسائر البشرية والمادية. لأن القانون في الحرب هو تحقيق النصر، وعدم الالتفات إلى ما سيقع من خسائر ويُقدّم من تضحيات، مهما طالت تلك الحرب. وهو قانون الانتصار في الحرب الذي طبقه القادة العظام على مرّ التاريخ، وبغض النظر عن خصوصيات كل حالة. وهو القانون الذي حكم كل المنتصرين في الحروب الكبرى.. الذين صنعوا التاريخ.
هذه الإشكالية الأولى تستند إلى ما جرى بين وزير خارجية أميركا جيمس بيكر وطارق عزيز ممثل الرئيس العراقي في لقاء جنيف. فقد طلب بيكر من عزيز تسليم رسالة للرئيس صدام حسين. فرفض. فقال له حسناً اقرأها. وناولها له. فقرأ فيها ما معناه: نحن نعرف بما تملكون من قنابل كيماوية وبيولوجية، فإذا استخدمتم إحداها ضد قواتنا (وربما أيضاً ضد «إسرائيل») فانسَ بغداد. ففي هذه اللحظة خسر العراق الحرب حين خاف من القنبلة النووية. وخاض الحرب ضمن شروط بيكر. ثم سلم أسلحته الكيماوية والبيولوجية، بعدها، لتعاد الكرّة عليه في 2003.
كان على صدام أن يتوقع هذه الرسالة، ويبلغ طارق عزيز أن يقول لبيكر «إذا شننتم حرباً علينا نفتح أبواب جهنم على قواتكم. وقد نسينا بغداد». لو فعلها، وكان صادقاً فعلاً، وليس مجرد كلام. لتغيّر وجه الحرب، أو لربما تعاطوا وإياه بلغة أخرى. وفي الأغلب لم تقع الحرب.
فإيران إذا وصلت الأمور إلى مستوى الحرب، وهي لا تريدها، وغير راغبة فيها، فطريقها إلى النصر لن يكون إلّا من خلال عدم الخوف، وبأعلى درجات الصدقية، من القنبلة حتى لو استخدمت فعلاً. لأنها هنا ستدفع ثمناً غالياً من الخسائر البشرية والمادية وتنتصر. أما مستخدم القنبلة فسوف يسقط ويُهزم وتقوم الدنيا عليه ولا تقعد، ولا سيما مع مواصلة إيران القتال. فالعالم اليوم غير عالم إلقاء القنبلة على ناغازاكي وهيروشيما. وشعب أميركا غير شعب أميركا وهو غارقٌ في الحرب العالمية الثانية. ويا للكيان الصهيوني ماذا سيحل بكل مشروعه إذا استخدمها، مثلاً، ماذا سيقول بعد ذلك عن «المحرقة».
تعوّد الإنسان العربي في ظل السيطرة الاستعمارية والهزائم العسكرية أن يستهول تقديم التضحيات البشرية. وهذه سمة طبيعية بالنسبة إلى المستضعف والمقهور والمهزوم. لماذا فوق كل ذلك البلاء يقدم المزيد من الخسائر البشرية والمادية؟ ولكن المنتصر، أو الذي يريد أن ينتصر ويصنع التاريخ فلا حساب عنده، وعند أمته للخسائر البشرية والمادية عندما تلوح راية الانتصار. فمن ذا الذي يقول لستالين لماذا قدمت 25 مليوناً لتنتصر في الحرب الثانية؟ أو يقول لتشرشل لماذا ضحيت بمئتي ألف في معركة دنكرك وحدها لتنتصر في الحرب؟ وعليه قس.
إذا ظن الفلسطينيون أو العرب أو المسلمون أنهم سيخرجون من «الحفرة» التي أسقطوا فيها خلال المئة سنة الماضية من دون أن يقدموا أكبر التضحيات البشرية والمادية، فلن يخرجوا من «الحفرة» أبداً. بل سيعادون إليها كلما حاولوا الخروج منها. لهذا يجب أن يكونوا مستعدين لعدم حساب الخسائر البشرية والمادية حين يلوح النصر وتكتمل شروطه. وهو ما فعله أجدادنا السابقون عندما صنعوا التاريخ.
بكلمة، إن إيران والمقاومات والممانعات والمعارضات المناضلة أمام امتحان النصر إذا ما اندلعت الحرب. ومن يخوض الحرب بعد تفكُّر وحساب وتقدير عليه أن ينتصر ولا يكون أمام عينيه غير النصر. وعندئذ ينصره الله، أو يستحق أن ينصره الله.