الاخبار الدراسات الفنون والاداب

الصوت‭ ‬الخفي.. عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭: ‬سيرته‭ ‬وفكره

كان‭ ‬اعتقال‭ ‬1988‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يمسح‭ ‬سنوات‭ ‬1969‭-‬‭ ‬1973‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬يتعاون‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬القيادي‭ ‬البعثي‭ ‬الراحل‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ ‬لإيجاد‭ ‬امتزاج‭ ‬محتمل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬العلمي‭ ‬والفكر‭ ‬القومي‭ ‬الذي‭ ‬مازال‭ ‬ولغاية‭ ‬تاريخ‭ ‬لاحق‭ ‬ضبابياً‭ ‬مسكوناً‭ ‬بالشعارات‭ ‬وكذلك‭ ‬بالمتطلبات‭ ‬الآنية‭ ‬التي‭ ‬تمليها‭ ‬ذرائعية‭ ‬الظروف‭ .‬وضاعت‭ ‬المحاولة‭ ‬مع‭ ‬اعتقال‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬1973‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تصفيته‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬متضامنة‭ ‬مع‭ ‬أفكاره‭ ‬سنة‭ ‬1979‭ ‬تمهيداً‭ ‬للدخول‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬مع‭ ‬إيران‭ ‬وإعلان‭ ‬حتمية‭ ‬القائد‭ ‬الوحيد‭ ‬الأوحد‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬اتفق‭ ‬عليه‭ ‬القائد‭ ‬الأوحد‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬مثقفية‭ ‬الجدد‭ ‬بقيادة‭ ‬طارق‭ ‬عزيز‭ ‬وعضوية‭ ‬عبدالجبار‭ ‬محسن‭ ‬وآخرين‭ .‬وكانت‭ ‬ثمرة‭ ‬مجهود‭ ‬‮ ‬النخبة‭ ‬الجديدة‭ ‬‭(‬نظرية‭ ‬العمل‭ ‬البعثية‭)‬‭ ‬التي‭ ‬تعنى‭ ‬أولاً‭ ‬وأخيراً‭ ‬بالمتطلبات‭ ‬المستجدة‭ ‬وبما‭ ‬يراه‭ ‬‭(‬القائد‭ ‬الضرورة‭)‬‭ ‬من‭ ‬مستلزمات‭ ‬لإدارة‭ ‬الحكم‭ .‬وستكون‭ ‬تسمية‭ ‬‭(‬القائد‭ ‬الضرورة‭)‬‭ ‬هي‭ ‬الختم‭ ‬النهائي‭ ‬على‭ ‬أيّة‭ ‬حوارات‭ ‬فعلية‭ ‬داخل‭ ‬التنظيم‭ ‬أو‭ ‬الدولة.

تنظيف البيت

‬مع هذا‭ ‬المشروع‭ ‬جرى‭ ‬حذف‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ومسح‭ ‬مجهودات‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ .‬وكان‭ ‬أن‭ ‬منعت‭ ‬كتب‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم،‭ ‬ووضع‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬التداول‭ ‬المحدود‭ ‬لدى‭ ‬المكتبة‭ ‬الوطنية‭ ‬حصراً‭ .‬ومنع‭ ‬ما‭ ‬عداها‭ .‬وأصدرت‭ ‬دائرة‭ ‬رقابة‭ ‬المطبوعات‭ ‬أمرا‭ ‬بهذا‭ ‬الصدد‭ ‬سنة‭ ‬1977‭ .‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬العتبة‭ ‬مهمة،‭ ‬لا‭ ‬لأن‭ ‬كتاب‭ ‬رقابة‭ ‬المطبوعات‭ ‬سيكون‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬‭(‬أوليات‭)‬‭ ‬التحقيق‭ ‬سنة‭ ‬1988‭ ‬في‭ ‬مبنى‭ ‬مديرية‭ ‬الأمن‭ ‬العامة‭ ‬‭(‬الطابق‭ ‬الثاني،‭ ‬الشعبة‭ ‬الخامسة‭)‬‭ ‬مقابل‭ ‬القصر‭ ‬الأبيض،‭ ‬شارع‭ ‬النضال‭ ‬المتفرع‭ ‬من‭ ‬ساحة‭ ‬الأندلس‭ ‬ببغداد‭ .‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬الأمر‭ ‬الرقابي‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬الذعر‭ ‬الذي‭ ‬طال‭ ‬وزارة‭ ‬الإعلام‭ ‬إزاء‭ ‬تحديات‭ ‬الدوائر‭ ‬الأمنية‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬أيضاً‭ ‬إدانة‭ ‬الجهاز‭ ‬المعلوماتي‭ ‬برمته‭ .‬فكان‭ ‬أن‭ ‬دافعت‭ ‬الوزارة‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬بإعلان‭ ‬نظافتها‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ .‬إن‭ ‬‭(‬نظافة‭)‬‭ ‬المؤسسة‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬يعني‭ ‬ضمناً‭ ‬‭(‬نظافة‭)‬‭ ‬الخطاب‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬ترسبات‭ ‬محتملة‭ ‬خلّفها‭ ‬الفكر‭ ‬السابق‭.‬

كان‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬يذكر‭ ‬في‭ ‬أوليات‭ ‬التحقيق‭ ‬لعام‭ ‬1988‭ ‬‭(‬أي‭ ‬الأوراق‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬أمام‭ ‬لجنة‭ ‬التحقيق‭)‬‭ ‬تاريخه‭ ‬السابق،‭ ‬وعبثاً‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬وضع‭ ‬فيها‭ ‬دراسات‭ ‬مهمة‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬مسار‭ ‬اختطه‭ ‬الحزب‭ ‬الحاكم‭ ‬منذ‭ ‬سنة‭ ‬1968،‭ ‬وأيده‭ ‬وشارك‭ ‬فيه‭ ‬المفكر‭ ‬الراحل‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ .‬وعبثاً‭ ‬جرى‭ ‬ذكر‭ ‬‭(‬الدليل‭ ‬في‭ ‬التنظيم‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬الخطة‭ ‬العملية‭ ‬لإيجاد‭ ‬حزب‭ ‬ثوري‭ ‬خال‭ ‬من‭ ‬التطلع‭ ‬الفوقي‭ ‬والانتهازية‭ ‬السياسية‭.‬

‭ .‬و‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لجنة‭ ‬التحقيق‭ ‬‮ ‬تريد‭ ‬ذلك،‭ ‬إنها‭ ‬تريد‭ ‬منه‭ ‬تبيان‭ ‬كيف‭ ‬التحق‭ ‬بالحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬ليتسنى‭ ‬تجريمه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬سنة‭ ‬1988‭ .‬جاءت‭ ‬قطيعته‭ ‬مع‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي1961‭ .‬وكانت‭ ‬جريدة‭ ‬“اتحاد‭ ‬الشعب”‭ ‬الناطقة‭ ‬بلسان‭ ‬الحزب‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬تنشر‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الردود‭ ‬القصيرة‭ ‬معنونة‭ ‬‭(‬إلى‭ ‬الرفيق‭ ‬موريس‭)‬،‭ ‬ترد‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تعدّه‭ ‬توجهاً‭ ‬يمينياً‭ ‬يعيد‭ ‬التفكير‭ ‬الأممي‭ ‬إلى‭ ‬خانة‭ ‬ضيقة‭ ‬من‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية‭ .‬

المذكرة‭ ‬القاتلة

لكن‭ ‬لجنة‭ ‬التحقيق‭ ‬ليست‭ ‬معنية‭ ‬بذلك،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬التهم‭ ‬التي‭ ‬أوردتها‭ ‬مذكرة‭ ‬مدير‭ ‬المخابرات‭ ‬العامة‭ ‬الدكتور‭ ‬فاضل‭ ‬البراك‭ ‬دليلاً‭ ‬في‭ ‬التحقيق،‭ ‬وكان‭ ‬الدكتور‭ ‬البراك‭ ‬يريد‭ ‬تجريم‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬بموجب‭ ‬أمرين‭: ‬الماضي‭ ‬الشيوعي،‭ ‬والكتابة‭ ‬في‭ ‬‭(‬الممنوعات‭)‬‭ ‬والمحرمات،‭ ‬ومنها‭ ‬كتابه‭ ‬‭(‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭: ‬سلطة‭ ‬الحق‭)‬‭ .‬لم‭ ‬يقرأ‭ ‬الدكتور‭ ‬فاضل‭ ‬البراك‭ ‬ولا‭ ‬اللجنة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ .‬لكنهم‭ ‬أخذوا‭ ‬بالعنوان‭ ‬وظنوه‭ ‬متحيزاً‭ ‬إلى‭ ‬فئة‭ ‬واختصر‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬لهم‭ ‬ما‭ ‬يريدون‭ ‬قوله‭: ‬تعلمون‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬معنياً‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الترهات‭ ‬وحساب‭ ‬الطوائف‭ .‬أنا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬التاريخ‭ ‬بموجب‭ ‬المادية‭ ‬التاريخية‭ .‬ولم‭ ‬يفهموا‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ .‬لكن‭ ‬الظروف‭ ‬سارت‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬آخر‭ ‬عندما‭ ‬انهارت‭ ‬إمبراطورية‭ ‬الدكتور‭ ‬فاضل‭ ‬البراك‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬ذلك‭ ‬الصيف‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1988‭ ‬ومعه‭ ‬التهم‭ ‬والمتابعات‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭.‬

ولكن‭ ‬من‭ ‬الوهم‭ ‬أن‭ ‬نظن‭ ‬أن‭ ‬التحقيق‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬توقيف‭ ‬1988‭ ‬حزيران‭/‬تشرين‭ ‬الثاني،‭ ‬كان‭ ‬منقطعاً‭ ‬عن‭ ‬اعتقال‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ ‬وتصفيته‭ .‬ففي‭ ‬عام‭ ‬1977‭ ‬كتب‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬مذكرته‭ ‬إلى‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬عقب‭ ‬ما‭ ‬حلّ‭ ‬بالجبهة‭ ‬الوطنية‭ ‬والقضية‭ ‬الكردية‭ .‬ويذكر‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬جميل‭ ‬شلش‭ ‬الذي‭ ‬شغل‭ ‬قبل‭ ‬حين‭ ‬مدير‭ ‬عام‭ ‬الدائرة‭ ‬الثقافية،‭ ‬أن‭ ‬عزيزاً‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬المذكرة‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬آخذة‭ ‬بالاضمحلال‭ ‬والانحطاط‭ ‬والتحول‭ ‬إلى‭ ‬صحافة‭ ‬ساذجة‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬السطحية‭ .‬وحمّل‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬القياديين،‭ ‬أبرزهم‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬والإعلام‭ ‬طارق‭ ‬عزيز،‭ ‬مسؤولية‭ ‬التسطيح‭ .‬وصلت‭ ‬المذكرة‭ ‬إلى‭ ‬السيد‭ ‬النائب‭ ‬آنذاك‭ ‬صدام‭ ‬حسين،‭ ‬وتم‭ ‬تشكيل‭ ‬لجنة‭ ‬تحقيق‭ ‬يرأسها‭ ‬سكرتير‭ ‬صدام‭ ‬العقيد‭ ‬علي‭ ‬العبيدي‭ .‬ويروي‭ ‬محمد‭ ‬جميل‭ ‬شلش‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬جالساً‭ ‬في‭ ‬بهو‭ ‬مبنى‭ ‬التحقيق،‭ ‬ولم‭ ‬يزل‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬مع‭ ‬لجنة‭ ‬المحققين‭ ‬التي‭ ‬ضمت‭ ‬أيضاً‭ ‬وزير‭ ‬الشباب‭ ‬آنذاك‭ ‬وخرج‭ ‬علي‭ ‬العبيدي‭ ‬من‭ ‬الغرفة‭ ‬ليتناول‭ ‬قرصاً‭ ‬مهدئاً،‭ ‬فسأله‭ ‬شلش‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬السبب‭ ‬خيراً‭: ‬كيف‭ ‬ذلك‭ ‬وعزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬يجيب‭ ‬بأن‭ ‬البرهان‭ ‬الأمثل‭ ‬على‭ ‬انحطاط‭ ‬الثقافة‭ ‬هو‭ ‬وجود‭ ‬لجنة‭ ‬تحقيق‭ ‬عسكرية‭ .‬ويضيف‭ ‬العقيد‭ ‬العبيدي‭ ‬أنه‭ ‬يقول‭ ‬ألا‭ ‬يكفي‭ ‬دليلاً‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أنت‭ ‬العقيد‭ ‬من‭ ‬يحقق‭ ‬مع‭ ‬المثقفين؟

سنوات‭ ‬الاعتقال

ولكن،‭ ‬لنعد‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬الاعتقال‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬الستينات،‭ ‬فبقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬تقرّب‭ ‬بين‭ ‬عزيز‭ ‬وبعض‭ ‬قادة‭ ‬البعث‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬نعيم‭ ‬حداد‭ ‬وصلاح‭ ‬عمر‭ ‬العلي،‭ ‬منذ‭ ‬1963،‭ ‬فإنها‭ ‬نفعته‭ ‬في‭ ‬التباعد‭ ‬عن‭ ‬الاحتراف‭ ‬السياسي‭ ‬وجادته‭ ‬التنظيمية‭ .‬وكانت‭ ‬قراءاته‭ ‬الواسعة‭ ‬قد‭ ‬تزايدت‭ ‬حينذاك‭ .‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬الكتب‭ ‬الممنوعة‭ ‬تصله‭ ‬مهربة‭ .‬وأخذ‭ ‬يلتقي‭ ‬الشباب‭ ‬المثقف‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬الذين‭ ‬أخذوا‭ ‬بالتقاطر‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬الناصرية،‭ ‬وناحية‭ ‬النصر‭ ‬مسقط‭ ‬رأسه‭ .‬كان‭ ‬أبرز‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشاعر‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬طهمازي‭ .‬كان‭ ‬منزل‭ ‬ملاّ‭ ‬رشيد،‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الناصرية‭ ‬هو‭ ‬ملاذه‭ ‬أيام‭ ‬الأزمات،‭ ‬وفي‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬يتخذ‭ ‬من‭ ‬فندق‭ ‬الأمة‭ ‬لابن‭ ‬ناحية‭ ‬النصر‭ ‬شريف‭ ‬المعيوف‭ ‬مقراً‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الذهاب‭ ‬والإياب‭ .‬أما‭ ‬مصادره‭ ‬في‭ ‬المعلومات‭ ‬والأخبار‭ ‬فكانت‭ ‬عديدة،‭ ‬أطرافها‭ ‬أبو‭ ‬أحمد‭ ‬صاحب‭ ‬مقهى‭ ‬صغير‭ ‬قبالة‭ ‬فندق‭ ‬الأمة‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬يساره‭ ‬بأمتار‭ .‬كانت‭ ‬القراءات‭ ‬تكتنز‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر،‭ ‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتحاور‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬القراءات‭ ‬تذييلاً‭ ‬وملاحظةً‭ ‬أو‭ ‬دراسةً‭.‬

وينهل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات‭ ‬من‭ ‬تجربته‭ ‬العملية،‭ ‬ولهذا‭ ‬فالمطالع‭ ‬لمقالاته‭ ‬منذ‭ ‬1963‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬وفي‭ ‬مجلات‭ ‬الآداب‭ ‬البيروتية‭ ‬والطريق‭ ‬اللبنانية،‭ ‬والكلمة‭ ‬العراقية‭ ‬وكذلك‭ ‬الأقلام‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬محافظة‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬نشأتها‭ ‬سنة‭ ‬1964‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬عزيزاً‭ ‬أخذ‭ ‬يختط‭ ‬طريقاً‭ ‬مستقلاً،‭ ‬فيه‭ ‬انتمائية‭ ‬إيجابية‭ ‬للوجودية‭ ‬فلسفةً‭ .‬ولم‭ ‬تجمع‭ ‬إلا‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬لتظهر‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬عام‭ ‬1970‭ ‬بعنوان‭ ‬“دراسات‭ ‬نقدية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الحديث”‭ ‬‭(‬بغداد‭: ‬مطبعة‭ ‬الإدارة‭ ‬المحلية‭)‬‭ .‬كان‭ ‬العراقيون‭ ‬قد‭ ‬تركوا‭ ‬السجون‭ ‬والمعتقلات‭ ‬يأكلهم‭ ‬الألم‭ ‬وتأنيب‭ ‬الضمير‭ .‬إذ‭ ‬كان‭ ‬موسم‭ ‬البراءات‭ ‬طويلاً‭ ‬امتد‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬الزعيم‭ ‬عبدالكريم‭ ‬قاسم‭ ‬سنة‭ ‬1962‭ ‬ولم‭ ‬ينته‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1964‭ .‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬براءة‭ ‬دبجتها‭ ‬مديرية‭ ‬الأمن‭ ‬العامة‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬مديرها‭ ‬ابن‭ ‬الناصرية‭ ‬المدير‭ ‬بهجت‭ ‬عطية‭ ‬الذي‭ ‬ساءت‭ ‬سمعته‭ ‬كثيراً‭ ‬بين‭ ‬العراقيين‭ ‬جراء‭ ‬احترافه‭ ‬لمهنة‭ ‬المتابعة‭ ‬السياسية‭ ‬وملاحقة‭ ‬الخصوم‭ ‬والتسلل‭ ‬في‭ ‬صفوفهم‭ .‬تقول‭ ‬تلك‭ ‬الديباجة‭: ‬إن‭ ‬الشيوعية‭ ‬فكر‭ ‬هدام‭ ‬وإنها‭ ‬كفر‭ ‬وإلحاد،‭ ‬وأن‭ ‬الموقع‭ ‬يتبرأ‭ ‬منها‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ .‬كانت‭ ‬البراءة‭ ‬بعباراتها‭ ‬الجديدة‭ ‬عن‭ ‬الكفر‭ ‬والإلحاد‭ ‬تتمة‭ ‬واستجابة‭ ‬لما‭ ‬أعلنه‭ ‬المرجع‭ ‬الشيعي‭ ‬الأعلى‭ ‬آنذاك‭ ‬حجة‭ ‬الإسلام‭ ‬السيد‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬الحكيم‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬فتواه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬سنة‭ ‬1960،‭ ‬واعتمدها‭ ‬الزعيم‭ ‬قاسم‭ ‬في‭ ‬ملاحقة‭ ‬الحزب‭ ‬الذي‭ ‬استمر‭ ‬مدافعاً‭ ‬عنه‭ ‬حتى‭ ‬صبيحة‭ ‬8‭ ‬شباط‭ ‬1963‭!‬

كان‭ ‬الخارجون‭ ‬من‭ ‬السجون‭ ‬يشعرون‭ ‬بالضعف‭ ‬والخجل،‭ ‬فالأقوياء‭ ‬ماتوا‭ ‬تحت‭ ‬التعذيب‭ .‬وكان‭ ‬شعور‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬الذين‭ ‬تبقوا‭ ‬منهم‭ ‬لم‭ ‬يعودوا‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬أنفسهم،‭ ‬من‭ ‬تقريع‭ ‬الضمير‭ ‬وعيون‭ ‬الاتهام‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تواجههم‭ ‬في‭ ‬منازلهم‭ ‬وبين‭ ‬أهليهم‭.‬

هذا‭ ‬الظرف‭ ‬السياسي‭ ‬سيطال‭ ‬البعثيين‭ ‬سنة‭ ‬1964،‭ ‬ولهذا‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬ثقافة‭ ‬العراقيين‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬مشكلات‭ ‬أخذت‭ ‬بالتوالد‭ ‬منذ‭ ‬سنة‭ ‬1958‭ ‬عندما‭ ‬أدركت‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬أنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬وكشف‭ ‬تنظيماتها‭ .‬لكن‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تدركه‭ ‬أن‭ ‬قيادتها‭ ‬بقيت‭ ‬‭(‬مثقفة‭)‬‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬تأمل‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والعرقي‭ ‬والديني‭ ‬للمجتمع‭ ‬العراقي‭.‬

الشخصية‭ ‬العراقية

كانت‭ ‬ثلة‭ ‬من‭ ‬مثقفي‭ ‬العراق‭ ‬تسعى‭ ‬لبلوغ‭ ‬ذلك‭ ‬الواقع‭ ‬والكتابة‭ ‬عنه‭ .‬وكان‭ ‬عزيز‭ ‬أحد‭ ‬هؤلاء‭ ‬وظهرت‭ ‬مقالته‭ ‬‮ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬سنة‭ ‬1965‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‭(‬الأقلام‭)‬‭ ‬ليناقش‭ ‬فيها‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الدكتور‭ ‬على‭ ‬الوردي‭ ‬ونظريته‭ ‬المشهورة‭ ‬حول‭ ‬ازدواجية‭ ‬الشخصية‭ ‬العراقية‭ .‬من‭ ‬المنطقي‭ ‬أن‭ ‬يعارض‭ ‬عزيز‭ ‬ثنائيات‭ ‬الوردي‭ ‬التي‭ ‬اعتمد‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬شائعاً‭ ‬لدى‭ ‬أنثروبولوجيي‭ ‬جامعة‭ ‬شيكاغو‭ ‬في‭ ‬الأربعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ .‬أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم،‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬شاباً‭ ‬عجنته‭ ‬التجربة‭ ‬وعركته‭ ‬المعتقلات‭ ‬ولجان‭ ‬التحقيق،‭ ‬فإن‭ ‬الثنائية‭ ‬البنائية‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬أمام‭ ‬المكونات‭ ‬المتعددة‭ ‬للشخصية‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬تعددية‭ ‬هائلة‭ ‬تجعل‭ ‬اختزاله‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬بداوة‭ ‬وحضارة‭ ‬أمراً‭ ‬مجحفاً‭ ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬مستساغاً‭ ‬ولذيذاً‭ ‬لما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬لوم‭ ‬وتقريع‭ ‬تستقبله‭ ‬الجماعات‭ ‬المقموعة‭ ‬بتلذّذ‭ ‬بينما‭ ‬تجد‭ ‬فيه‭ ‬الفئات‭ ‬النافذة‭ ‬تعويذة‭ ‬الخلاص‭ ‬من‭ ‬المسؤولية‭ ‬الإدارية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاقتصادية‭.‬

وليس‭ ‬مستغرباً‭ ‬أن‭ ‬تبدو‭ ‬‭(‬الوجودية‭)‬‭ ‬مدخلاً‭ ‬لحرية‭ ‬الإنسان‭ ‬وديمقراطية‭ ‬العلاقات‭ ‬والبنى،‭ ‬وظهرت‭ ‬مقالاته‭ ‬تباعاً‭ ‬عن‭ ‬الانتماء‭ ‬والوجودية‭ ‬والالتزام‭ ‬ومسؤولية‭ ‬الشاعر،‭ ‬وكولن‭ ‬ولسن،‭ ‬وكامو،‭ ‬وسارتر،‭ ‬وغيرهم‭ .‬ومن‭ ‬تلك‭ ‬الزاوية‭ ‬أيضاً‭ ‬كانت‭ ‬قراءة‭ ‬المكّون‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬جماعة‭ ‬الستينات‭ ‬والخمسينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‭ ‬وسعدي‭ ‬يوسف‭ ‬وآخرين‭ .‬وظهرت‭ ‬أيضاً‭ ‬دراساته‭ ‬في‭ ‬الغربة‭ ‬والاغتراب‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الآداب‭ ‬في‭ ‬الستينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ .‬وتميزت‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬بالكثافة‭ ‬في‭ ‬النشر،‭ ‬وضاعت‭ ‬عشرات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬أدراج‭ ‬جريدة‭ ‬صوت‭ ‬العرب‭ ‬البغدادية،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬المقالات‭ ‬الأدبية،‭ ‬ثلاثون‭ ‬حلقة‭ ‬من‭ ‬“مذكرات‭ ‬عربنجي”،‭ ‬أي‭ ‬عربكي،‭ ‬احتفظ‭ ‬بها‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬فوزي‭ ‬عبدالواحد‭ ‬في‭ ‬درج‭ ‬مكتبه‭ ‬لحين‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يفعله‭ ‬بشأنها‭ ‬حتى‭ ‬جاء‭ ‬موعد‭ ‬تأميم‭ ‬الصحافة‭ ‬وغلق‭ ‬الجريدة‭ ‬وضياع‭ ‬ما‭ ‬لديها‭ ‬من‭ ‬مقالات‭ .‬وظهرت‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭ ‬صحف‭ ‬المؤسسة‭ ‬العامة‭ ‬للصحافة،‭ ‬ومنها‭ ‬جريدة‭ ‬الثورة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬ترأس‭ ‬تحريرها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬1967‭ ‬الأستاذ‭ ‬حازم‭ ‬مشتاق‭ ‬وكان‭ ‬مدير‭ ‬تحريرها‭ ‬الأستاذ‭ ‬معاذ‭ ‬عبدالرحيم،‭ ‬من‭ ‬مؤسسي‭ ‬البعث‭ ‬في‭ ‬الناصرية‭ .‬وكان‭ ‬معاذ‭ ‬قد‭ ‬ترك‭ ‬العمل‭ ‬السياسي،‭ ‬ووجد‭ ‬فيه‭ ‬القوميون‭ ‬إمكانية‭ ‬صحفية‭ ‬نافعة‭ .‬وظهرت‭ ‬مقالة‭ ‬لعزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬الجبهة‭ ‬الوطنية‭ ‬وماهية‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬الفاعلة‭ .‬وكان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يهمل‭ ‬تماماً‭ ‬الأحزاب‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬بالظهور‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬حكم‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬عارف،‭ ‬ومنها‭ ‬الحزب‭ ‬الثوري‭ ‬الذي‭ ‬يديره‭ ‬عبدالرزاق‭ ‬النايف‭ ‬مدير‭ ‬الاستخبارات‭ ‬العسكرية‭ ‬والرجل‭ ‬المتنفذ‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬عارف‭ ‬والند‭ ‬الفعلي‭ ‬لعارف‭ .‬وضم‭ ‬الحزب‭ ‬آنذاك‭ ‬البعثيين‭ ‬السابقين‭ ‬من‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬تحسين‭ ‬السوز‭ ‬وسامي‭ ‬فرج‭ ‬وكلاهما‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬محافظة‭ ‬الناصرية‭ .‬وكان‭ ‬الحزب‭ ‬الثوري‭ ‬منزعجاً‭ ‬من‭ ‬الدعوة‭ ‬للجبهة،‭ ‬ولم‭ ‬يدر‭ ‬بخلد‭ ‬أحد‭ ‬أنه،‭ ‬أي‭ ‬الحزب،‭ ‬كان‭ ‬يخطط‭ ‬لانقلاب‭ ‬قادم‭.‬

محطة‭ ‬جديدة

وجاء‭ ‬انقلاب‭ ‬1968‭ ‬الذي‭ ‬شارك‭ ‬فيه‭ ‬البعث‭ ‬والنايف‭ ‬بمثابة‭ ‬محطة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العراق،‭ ‬فالنخبة‭ ‬‭(‬اليسارية‭)‬‭ ‬داخل‭ ‬البعث‭ ‬رأت‭ ‬الفرصة‭ ‬قادمة‭ ‬لتغيير‭ ‬مسار‭ ‬1963‭ .‬وكان‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ ‬يقود‭ ‬ذلك‭ ‬بهدوء‭ ‬‭(‬الملا‭)‬‭ ‬كما‭ ‬كانوا‭ ‬يسمونه‭ ‬لما‭ ‬عرف‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬عفة‭ ‬وتقشف‭ ‬ووعي‭ ‬ذهني‭ ‬حاد‭ ‬وإخلاص‭ ‬مفعم‭ ‬بحب‭ ‬الناس‭ ‬وتمييز‭ ‬الخبيث‭ ‬من‭ ‬الطيب‭ .‬كان‭ ‬‭(‬أبو‭ ‬دحام‭)‬‭ ‬الصديق‭ ‬المناسب‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬صديق‭ ‬مماثل،‭ ‬كان‭ ‬لقاء‭ ‬عزيز‭ ‬وعبدالخالق‭ ‬أهم‭ ‬نقطة‭ ‬عمل‭ ‬وتحول‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الاثنين،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الحركة‭ ‬السياسية‭ .‬تم‭ ‬ذلك‭ ‬سنة‭ ‬1969‭ ‬بعدما‭ ‬دعا‭ ‬عبدالخالق‭ ‬وصدام‭ ‬عزيزاً‭ ‬رسمياً‭ ‬للقدوم‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ .‬كان‭ ‬اليسار‭ ‬العراقي‭ ‬يسمع‭ ‬عن‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي،‭ ‬ولكنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬على‭ ‬اطلاع‭ ‬كافٍ‭ ‬بالذهنية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬بها‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ ‬بعد‭ ‬1963‭ ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬مصادفات‭ ‬الأحزاب‭ ‬المعروفة‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬المريد‭ ‬ضد‭ ‬أستاذه،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬صدام‭ ‬إزاء‭ ‬عبدالخالق‭ .‬ولكن‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬صداماً‭ ‬تلبّس‭ ‬حينذاك‭ ‬حلةً‭ ‬لينينية،‭ ‬كما‭ ‬تبين‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ .‬أما‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ ‬فكان‭ ‬تحوله‭ ‬الفكري‭ ‬عميقا‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬عكف‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬والثقافة‭ ‬والتمعن‭ ‬في‭ ‬خصوصية‭ ‬العراق‭ .‬كان‭ ‬عزيز‭ ‬قد‭ ‬أعلن‭ ‬تحوله‭ ‬من‭ ‬‭(‬الأممية‭)‬‭ ‬نحو‭ ‬قومية‭-‬‭ ‬ماركسية‭ ‬معنية‭ ‬بالماهية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والعرقية‭ ‬للتكوين‭ ‬العراقي‭ ‬والعربي،‭ ‬ومنذ‭ ‬سنة‭ ‬1961‭ ‬‭(‬أي‭ ‬انشقاقه‭ ‬النهائي‭ ‬عن‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬العراقي‭)‬‭ ‬كان‭ ‬عضو‭ ‬اللجنة‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬الناصرية‭ ‬قد‭ ‬عاش‭ ‬مرحلة‭ ‬فكرية‭ ‬جديدة،‭ ‬سيحافظ‭ ‬عليها‭ ‬كثيراً‭ ‬بعد‭ ‬حين،‭ ‬ويسبغها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬أفكاره‭ ‬التي‭ ‬بدت‭ ‬تتخذ‭ ‬مسحة‭ ‬‭(‬صوفية‭)‬‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ .‬كان‭ ‬عبدالخالق‭ ‬من‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬مأخوذاً‭ ‬بكيفية‭ ‬تحويل‭ ‬‭(‬البعث‭)‬‭ ‬من‭ ‬ضبابية‭ ‬الفكر‭ ‬والشعار‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬ثوري‭ ‬طليعي‭ .‬التقى‭ ‬الاثنان‭ ‬سنة‭ ‬1969،‭ ‬وتحديداً‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬ذلك‭ ‬العام،‭ ‬وبدأ‭ ‬اللقاء‭ ‬يتخذ‭ ‬منحى‭ ‬يومياً،‭ ‬كلاهما‭ ‬يتخفف‭ ‬إزاء‭ ‬الترف‭ ‬المادي‭ ‬وبيروقراطية‭ ‬الإدارة،‭ ‬كلاهما‭ ‬يرفض‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬ربطة‭ ‬عنق‭ ‬أو‭ ‬يتشبه‭ ‬بالأفندية‭ .‬وكانت‭ ‬المقالات‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬تثقيف‭ ‬البعثيين‭ ‬تحمل‭ ‬بصمات‭ ‬الاثنين،‭ ‬وهي‭ ‬تشدد‭ ‬على‭ ‬الطهارة‭ ‬الثورية،‭ ‬والعفة،‭ ‬الطليعية‭ ‬الثورية،‭ ‬وحرية‭ ‬الرأي،‭ ‬والديمقراطية‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬التنظيم‭ .‬بقي‭ ‬عزيزاً‭ ‬شريكاً‭ ‬لعبدالخالق‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أنتج‭ ‬وهو‭ ‬غفل‭ ‬من‭ ‬اسم‭.‬‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬أن‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬كان‭ ‬آنذاك‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭ ‬كمثقف‭ ‬طليعي،‭ ‬ثوري،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬مقالة‭ ‬نشرتها‭ ‬مجلة‭ ‬الغد‭ ‬التي‭ ‬يرأس‭ ‬تحريرها‭ ‬عزيز‭ ‬بعنوان‭ ‬“خندق‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬خندقان”‭ ‬كان‭ ‬مأخوذاً‭ ‬بالفكر‭ ‬اللينيني،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬تقبل‭ ‬الآخرين‭ .‬واتصل‭ ‬مرة‭ ‬بعزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬ليطلب‭ ‬منه‭ ‬لزوم‭ ‬تعليم‭ ‬البعثيين‭ ‬المركزية،‭ ‬لأنهم‭ ‬لم‭ ‬يألفوا‭ ‬الدولة‭ ‬العصرية‭ ‬بعد‭.‬

وظهرت‭ ‬فعلاً‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬المجلة‭ ‬الداخلية‭ ‬للبعث‭ ‬‭(‬الثورة‭ ‬العربية‭)‬‭ ‬مقالة‭ ‬بعنوان‭ ‬“المركزية‭ ‬الديمقراطية”‭ .‬ويذكر‭ ‬عزيز‭ ‬أن‭ ‬عبدالخالق‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬راضٍياً‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬لأنه،‭ ‬وهنا‭ ‬بيت‭ ‬القصيد،‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬رغبة‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬الدفينة‭ ‬في‭ ‬الاستئثار‭ ‬التدريجي‭ ‬بالسلطة‭ .‬كان‭ ‬صدام‭ ‬يذكر‭ ‬لعزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬أن‭ ‬البعث‭ ‬لم‭ ‬يرق‭ ‬بعد‭ ‬إلى‭ ‬‭(‬الديمقراطية‭ ‬المركزية‭)‬‭ ‬وهو‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬‭(‬مركزية‭ ‬أشد‭)‬‭ .‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عزيز‭ ‬منخرطاً‭ ‬في‭ ‬البعث‭ .‬وعندما‭ ‬عرض‭ ‬عليه‭ ‬عبدالخالق‭ ‬عضوية‭ ‬شرف‭ ‬كجواز‭ ‬مرور‭ ‬مؤقت‭ ‬رفضها‭ ‬عزيز‭ ‬بعد‭ ‬حين،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬سجن‭ ‬عبدالخالق‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬ربيع‭ ‬1973‭ .‬إذ‭ ‬اتصل‭ ‬به‭ ‬مسؤول‭ ‬المكتب‭ ‬‮ ‬الشاعر‭ ‬كمال‭ ‬الحديثي‭ ‬الذي‭ ‬تشكل‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬عبدالخالق،‮ ‬عارضاً‭ ‬عليه‭ ‬الاجتماع‭ .‬أجابه‭ ‬عزيز‭ ‬“لم‭ ‬أكن‭ ‬عضواً‭ ‬ولم‭ ‬أجتمع‭ ‬يوماً”‭ .‬وبالفعل‭ ‬كانت‭ ‬لقاءات‭ ‬عزيز‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬رهبانية‭ ‬مع‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬في‭ ‬التدليل‭ ‬على‭ ‬العلاقة‭ ‬المتينة‭ ‬بين‭ ‬الاثنين،‭ ‬عبدالخالق‭ ‬وعزيز،‭ ‬أنه‭ ‬ليلة‭ ‬اعتقال‭ ‬عبدالخالق‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬عائلة‭ ‬السامرائي‭ ‬من‭ ‬تلجأ‭ ‬إليه‭ ‬للسؤال‭ ‬عمّا‭ ‬جرى‭ ‬غير‭ ‬عزيز،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لدى‭ ‬عزيز‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬للزعيم‭ ‬ناجي‭ ‬‭(‬رفيق‭ ‬عبدالخالق‭)‬‭ ‬وسائقه‭ ‬وابن‭ ‬أخته‭ .‬إذ‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ ‬خروج‭ ‬عبدالخالق‭ ‬من‭ ‬الاجتماع،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬مع‭ ‬الدكتور‭ ‬إلياس‭ ‬فرح،‭ ‬عندما‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬عبدالخالق‭ ‬اعتقل‭ ‬أثناء‭ ‬اجتماع‭ ‬القيادة‭ ‬القطرية‭!‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يقال،‭ ‬لكن‭ ‬عزيزاً‭ ‬ذكر‭ ‬لاحقاً‭ ‬هواجس‭ ‬عبدالخالق‭ ‬من‭ ‬حركة‭ ‬مريبة‭ ‬جارية‭ .‬وكان‭ ‬ناظم‭ ‬كزار‭ ‬يتكرر‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المرافق‭ ‬الرئاسية‭ ‬والقيادية‭ .‬وكان‭ ‬وثيق‭ ‬العلاقة‭ ‬بصدام‭ .‬وأغلب‭ ‬الظن،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تذكره‭ ‬الوثائق‭ ‬الروسية،‭ ‬أن‭ ‬الطبخة‭ ‬كانت‭ ‬معدة‭ ‬للخلاص‭ ‬مع‭ ‬طاقم‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬العسكريين،‭ ‬ومعهم‭ ‬الرئيس‭ ‬أحمد‭ ‬حسن‭ ‬البكر‭ .‬أما‭ ‬لماذا‭ ‬زج‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فلأنه‭ ‬اطّلع‭ ‬على‭ ‬سر‭ ‬التواطؤ‭ ‬بين‭ ‬صدام‭ ‬وكزار‭ ‬‭(‬مدير‭ ‬الأمن‭ ‬العام‭)‬‭ ‬للخلاص‭ ‬من‭ ‬العسكريين‭ .‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عبدالخالق‭ ‬يقبل‭ ‬بأي‭ ‬أسلوب‭ ‬اختراق‭ ‬عدا‭ ‬ما‭ ‬يقرر‭ ‬داخل‭ ‬الاجتماعات‭ ‬القطرية‭ ‬التي‭ ‬يعدها‭ ‬سبيلاً‭ ‬للحوار‭ .‬وعندما‭ ‬سئل‭ ‬عبدالخالق‭ ‬في‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬المرات‭ ‬لماذا‭ ‬نشر‭ ‬مجموعة‭ ‬مقالات‭ ‬بتوقيع‭ ‬‭(‬رفيق‭)‬،‭ ‬قال‭: ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬موافقة‭ ‬الحزب‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬ليكتبها‭ ‬باسمه‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬معرفة‭ ‬عبدالخالق‭ ‬بميل‭ ‬صدام‭ ‬للاستحواذ‭ ‬والسلطة‭ ‬جديدة،‭ ‬لكن‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬انقلاب‭ ‬1968‭ ‬تكشفت‭ ‬عن‭ ‬أمور‭ ‬كثيرة‭ .‬وعلى‭ ‬خلاف‭ ‬ما‭ ‬يعتقد،‭ ‬كان‭ ‬السامرائي‭ ‬وعزيز‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬حسنة‭ ‬تماماً‭ ‬مع‭ ‬أحمد‭ ‬حسن‭ ‬البكر‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يطمئن‭ ‬إلى‭ ‬رأي‭ ‬الاثنين‭ ‬بشأن‭:‬

 ‬1‭-‬‭ ‬التأميم‭ ‬المرحلي‭ ‬لمنع‭ ‬الاختناق‭ ‬المادي‭ ‬وظهور‭ ‬نزعات‭ ‬استئثارية‭ ‬تقود‭ ‬إليها‭ ‬الوفرة المادية‭ ‬السريعة،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬الغرور‭ ‬والصلف‭ ‬والعسكرتارية‭.‬

2‭-‬‭ ‬المضي‭ ‬التدريجي‭ ‬في‭ ‬التحول‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬والإصلاح‭ ‬الزراعي،‭ ‬والتصنيع‭.‬

3‭-‬‭ ‬بناء‭ ‬هيكلي‭ ‬للدولة‭ ‬يضمن‭ ‬الثبات‭ ‬المؤسساتي‭ ‬ويحمي‭ ‬المواطن‭ ‬والمجتمع‭ ‬المدني‭.‬

أما‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العام،‭ ‬فيتلخص‭ ‬المشروع‭ ‬المتفق‭ ‬عليه‭ ‬بـ‭:‬

1‭-‬‭ ‬اعتماد‭ ‬الجبهة‭ ‬الوطنية‭ ‬التقدمية‭ ‬جادة‭ ‬طريق‭ ‬وغاية‭.‬

2‭-‬‭ ‬منح‭ ‬الأكراد‭ ‬حقهم‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭.‬

3‭-‬‭ ‬احتضان‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية‭ ‬مفهوماً‭ ‬اقتصادياً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مشروعاً‭ ‬سياسياً،‭ ‬والسعي‭ ‬لإيجاد‭ ‬سوق‭ ‬عربية‭ ‬مشتركة‭ ‬تتكامل‭ ‬فيها‭ ‬الاحتياجات‭ ‬العربية‭.‬

-‬‭ ‬السعي‭ ‬نحو‭ ‬الوحدة‭ ‬السورية‭-‬العراقية‭.‬

ولهذا‭ ‬كانت‭ ‬اجتماعات‭ ‬القيادة‭ ‬القطرية‭ ‬تتجه‭ ‬نحو‭ ‬هذه‭ ‬الأفاق،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬مقالات‭ ‬‭(‬الثورة‭ ‬العربية‭)‬‭ ‬تتقصى‭ ‬الممكن‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬ثقافة‭ ‬البعثيين‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬مفاهيم‭ ‬صدامية‭ ‬مقاتلة‭ ‬للشرائح‭ ‬الوطنية‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬تحتضن‭ ‬أفكار‭ ‬الآخرين‭ ‬وآمالهم‭ .‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مدير‭ ‬الأمن‭ ‬العام‭ ‬ناظم‭ ‬كزار‭ ‬يؤمن‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار،‭ ‬وكان‭ ‬يعتقد‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬مصيرها‮ ‬‭ ‬إلى‭ ‬الانتهاء‭ .‬ولهذا‭ ‬مارس‭ ‬قمعاً‭ ‬دموياً‭ ‬حاداً‭ ‬للأطراف‭ ‬السياسية‭ .‬وبلغت‭ ‬الاغتيالات‭ ‬مستوى‭ ‬جديداً‭ ‬لم‭ ‬يألفه‭ ‬العراقيون‭ .‬وطالت‭ ‬هذه‭ ‬الاغتيالات‭ ‬مثقفين،‭ ‬وأساتذة‭ ‬جامعيين،‭ ‬وقيادات‭ ‬عمالية،‭ ‬وشخصيات‭ ‬دينية‭ ‬مرموقة‭.‬

من‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬أخذت‭ ‬فئة‭ ‬الثقافة‭ ‬الجديدة‭ ‬داخل‭ ‬حزب‭ ‬البعث‭ ‬“تأتلف”،‭ ‬وترى‭ ‬لزوم‭ ‬الوحدة‭ ‬مع‭ ‬سوريا،‭ ‬وكان‭ ‬البكر‭ ‬موافقاً‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ .‬وضمت‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬كافة‭ ‬الوجوه‭ ‬القيادية‭ ‬والكوادر‭ ‬المعروفة‭ ‬التي‭ ‬أقدم‭ ‬صدام‭ ‬على‭ ‬تصفيتها‭ ‬نهائياً‭ ‬سنة‭ ‬1979‭ ‬تمهيداً‭ ‬للحرب‭ ‬مع‭ ‬إيران‭ ‬وشن‭ ‬العداء‭ ‬العلني‭ ‬على‭ ‬سوريا‭.‬

كانت‭ ‬تلك‭ ‬مرحلة‭ ‬مهمة‭ ‬لأنها‭ ‬العلامة‭ ‬الفارقة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية‭ ‬وفي‭ ‬تاريخ‭ ‬العراق‭ ‬السياسي،‭ ‬بانتهائها‭ ‬منذ‭ ‬1973‭ ‬وتقهقرها‭ ‬التدريجي‭ ‬لغاية‭ ‬1977‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬موتها‭ ‬سنة‭ ‬1979‭ ‬وابتلاعها‭ ‬ومعها‭ ‬رصيد‭ ‬العراق‭ ‬المادي‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬إيران‭ ‬يكون‭ ‬العراق‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬عداً‭ ‬تنازلياً‭.‬

ومرة‭ ‬أخرى،‭ ‬فإن‭ ‬الفكر‭ ‬العراقي‭ ‬لم‭ ‬يشف‭ ‬أبداً‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المحنة‭ .‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬أسس‭ ‬لنفسه‭ ‬تكوينات‭ ‬واضحة‭ ‬منذ‭ ‬1958‭ .‬ويخطئ‭ ‬من‭ ‬يظن‭ ‬أن‭ ‬الأدبيات‭ ‬المختلفة‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬تكوين‭ ‬مسارات‭ ‬فعلية‭ ‬قاطعة،‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬تجعلنا‭ ‬نرسم‭ ‬بسهولة‭ ‬مسار‭ ‬النهضة‭ ‬الأوروبية،‭ ‬أو‭ ‬عصر‭ ‬التنوير‭ ‬أو‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الأولى‭ .‬وعندما‭ ‬يخلط‭ ‬المثقفون‭ ‬ودارسو‭ ‬التاريخ‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬المؤسسات‭ ‬والبناءات‭ ‬الفعلية‭ ‬وسلالات‭ ‬نسبها‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬الفورات‭ ‬الرومانسية،‭ ‬فإنهم‭ ‬يضعون‭ ‬على‭ ‬عيونهم‭ ‬ستاراً‭ ‬يحجب‭ ‬عنها‭ ‬الرؤية‭ ‬الدقيقة،‭ ‬فالنهضة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬لم‭ ‬تقم‭ ‬فعلياً‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ .‬وما‭ ‬بدا‭ ‬تكويناً‭ ‬برلمانياً‭ ‬وسعياً‭ ‬تربوياً‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬وتطوير‭ ‬المدن‭ ‬وتوسيعها‭ ‬كان‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬الأداء‭ ‬البريطاني‭ ‬وبالإفادة‭ ‬من‭ ‬طاقات‭ ‬عراقية‭ ‬طموحة‭ .‬ولم‭ ‬ترتق‭ ‬تلك‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الرسوخ‭ ‬المؤسساتي‭ ‬والممارسة‭ ‬المنظمة‭ ‬للحياة‭ ‬المدنية‭ .‬ولأن‭ ‬لهذا‭ ‬الأمر‭ ‬علاقة‭ ‬بما‭ ‬يدفع‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬لكتابة‭ ‬نصوصه‭ ‬السبعينية،‭ ‬دعونا‭ ‬نتوقف‭ ‬عند‭ ‬الملامح‭ ‬الشعبية‭ ‬والفكرية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬لغاية‭ ‬انهيارات‭ ‬الأنظمة‭ ‬منذ‭ ‬1963،‭ ‬وانتهاء‭ ‬باحتلال‭ ‬2003‭ ‬وتبعاته‭ ‬في‭ ‬الهدم‭ ‬النهائي‭ ‬للبنية‭ ‬العراقية‭.‬

ضبابية‭ ‬الفكر

غالباً‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬التخطيط‭ ‬التربوي‭ ‬للنظام‭ ‬التعليمي‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والذي‭ ‬شارك‭ ‬فيه،‭ ‬مع‭ ‬التباين‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬ساطع‭ ‬الحصري،‭ ‬فاضل‭ ‬الجمالي،‭ ‬سامي‭ ‬شوكت،‭ ‬وبين‭ ‬الفكر‭ ‬التربوي‭ .‬إذ‭ ‬بقي‭ ‬الفكر‭ ‬التربوي‭ ‬مشتناً‭ ‬لا‭ ‬تجمعه‭ ‬نظرية‭ ‬أو‭ ‬سياقات‭ ‬واضحة‭ ‬المعالم‭ ..‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬قدوم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الموفدين‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬التربوي‭ ‬بقي‭ ‬ضبابي‭ ‬الملامح‭ .‬ومثله‭ ‬الفكر‭ ‬الاقتصادي‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬إبراهيم‭ ‬وضع‭ ‬كتابه‭ ‬“الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الهند”‭ ‬في‭ ‬الثلاثينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يتبنى‭ ‬حزبه‭ ‬‭(‬الوطني‭ ‬الديمقراطي‭)‬‭ ‬خطة‭ ‬واضحة‭ ‬اقتصادياً‭ ‬تضع‭ ‬البلاد‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬التنمية‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية‭ .‬ولكن‭ ‬فكره‭ ‬وفكر‭ ‬محمد‭ ‬حديد،‭ ‬وكامل‭ ‬والجادرجي‭ ‬كان‭ ‬‭(‬ليبرالياً‭)‬،‭ ‬بمعنى‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬ثقافة‭ ‬السوق‭ ‬واقتصادياته،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيجعل‭ ‬التناقض‭ ‬قابلاً‭ ‬للانفجار‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬الحزب‭ ‬والحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬العراقي‭ .‬وأثمرت‭ ‬مساعي‭ ‬‭(‬مجلس‭ ‬الأعمار‭)‬‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬خطة‭ ‬إعمار‭ ‬متكاملة‭ ‬لمشاريع‭ ‬إروائية‭ ‬واقتصادية‭ ‬سنة‭ ‬1957،‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إيرادات‭ ‬النفط‭ ‬المتوقعة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تلبية‭ ‬المشاريع‭ ‬المذكورة‭ .‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الخطة‭ ‬إيذاناً‭ ‬مهماً‭ ‬باحتمالات‭ ‬تكاتف‭ ‬الفكر‭ ‬والتخطيط‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬قواعد‭ ‬تنمية‭ ‬ومؤسسات‭ ‬عراقية‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬بقاء‭ ‬محافظات‭ ‬العراق‭ ‬متفاوتة‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمؤسساتية‭ ‬والاقتصادية‭ .‬وظهرت،‭ ‬كتب‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬وهي‭ ‬كتب‭ ‬جاءت‭ ‬لسوء‭ ‬الحظ‭ ‬بعد‭ ‬انتكاس‭ ‬ذلك‭ ‬المشروع‭ .‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬ما‭ ‬أنجز‭ ‬أيام‭ ‬عبدالكريم‭ ‬قاسم‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬السبعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬تحقيق‭ ‬جزئي‭ ‬لمخطط‭ ‬مجلس‭ ‬الإعمار‭ ‬المذكور‭ .‬كان‭ ‬الاقتصادي‭ ‬العراقي‭ ‬محمد‭ ‬سلمان‭ ‬حسن‭ ‬هو‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬تصور‭ ‬لاقتصاديات‭ ‬النفط‭ .‬وكان‭ ‬علي‭ ‬الوردي‭ ‬الأكثر‭ ‬ذيوعاً‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬مشكلة‭ ‬العراق‭ ‬الاجتماعية‭ .‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يقدم‭ ‬مشروعاً‭ ‬بديلاً،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬مثلاً‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬الخمسينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬عندما‭ ‬ناقش‭ ‬“أسطورة‭ ‬الأدب‭ ‬الرفيع‮»‬‭ ‬و”وعاظ‭ ‬السلاطين”‭ ‬أما‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الأدب،‭ ‬فقد‭ ‬تميز‭ ‬العراق‭ ‬بشعراء‭ ‬مبرزين‭ ‬معروفين‭ ‬جرت‭ ‬الكتابة‭ ‬عنهم‭ ‬دون‭ ‬تساؤل‭ ‬جاد‭ ‬في‭ ‬الأسباب‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬نهضة‭ ‬شعرية‭ ‬وفنية‭ ‬وقصصية‭ ‬دون‭ ‬مقومات‭ ‬أخرى‭ ‬واضحة‭ ‬المعالم‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ .‬سيبقى‭ ‬السؤال‭ ‬مفتوحاً،‭ ‬ومعه‭ ‬أسئلة‭ ‬أخرى‭ ‬ستزداد‭ ‬حدة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬القادمة‭.‬

فمع‭ ‬وأد‭ ‬‭(‬طليعية‭)‬‭ ‬بداية‭ ‬السبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬والاستئثار‭ ‬التدريجي‭ ‬لنظرية‭ ‬‭(‬العمل‭ ‬البعثية‭)‬‭ ‬وكذلك‭ ‬أسطورة‭ ‬‭(‬القائد‭ ‬الضرورة‭)‬‭ ‬يكون‭ ‬العراق‭ ‬قد‭ ‬عاد‭ ‬دورة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬احتمالات‭ ‬النهضة‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬الدولة‭ ‬كمؤسسة‭ ‬قوية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬أفرادها‭ .‬ومع‭ ‬ولادة‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة،‭ ‬ظهرت‭ ‬ثنائية‭ ‬التناقض‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬‭(‬الدولة‭)‬‭ ‬كمؤسسة‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬مفهوم‭ ‬‭(‬الجيش‭)‬‭ ‬المحارب‭ .‬كانت‭ ‬ثنائية‭ ‬التناقض‭ ‬خطيرة‭ ‬لأنها‭ ‬تعني‭ ‬استحالة‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬الاثنين،‭ ‬فآلة‭ ‬الحرب‭ ‬هي‭ ‬آلة‭ ‬خارجية،‭ ‬أي‭ ‬طارئة،‭ ‬على‭ ‬التكوين‭ ‬الداخلي‭ ‬للمؤسسة؛‭ ‬وليس‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬تنهار‭ ‬هذه‭ ‬البنية‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬صراع‭ ‬ثانٍ‭ ‬أو‭ ‬ثالثٍ،‭ ‬لسبب‭ ‬بسيط‭ ‬هو‭ ‬فقدان‭ ‬مرتكز‭ ‬هذه‭ ‬الآلة‭ ‬داخل‭ ‬الدولة‭ .‬ويخطئ‭ ‬من‭ ‬يقارن‭ ‬ذلك‭ ‬بالإمبراطوريات‭ ‬التي‭ ‬تنشأ‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الجيوش‭ ‬المسلحة‭ ‬وتجارة‭ ‬الأسلحة‭ .‬فالأخيرة‭ ‬تبني‭ ‬حضورها‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬فعلها‭ ‬الخارجي‭ ‬‭(‬التوسع،‭ ‬الأسواق،‭ ‬صفقات‭ ‬السلاح،‭ ‬احتلال‭ ‬منابع‭ ‬الثروة‭)‬،‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬التكوين‭ ‬الداخلي‭ ‬للدولة‭ ‬الذي‭ ‬تحتاج‭ ‬إليه‭ ‬الدول‭ ‬الناشئة‭ ‬والوطنية‭.‬

فما‭ ‬الذي‭ ‬يفعله‭ ‬مثقف‭ ‬نذر‭ ‬نفسه‭ ‬للجمع‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬‭(‬القومي‭)‬‭ ‬و‭(‬الماركسي‭)‬‭ ‬في‭ ‬مساقات‭ ‬لها‭ ‬أصداء‭ ‬لينينية‭ ‬ونفحات‭ ‬تروتسكية‭ ‬طارئة؟‭ ‬كانت‭ ‬سنوات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬1977‭ ‬هي‭ ‬سنوات‭ ‬حصاره،‭ ‬إذ‭ ‬أحيل‭ ‬على‭ ‬التقاعد‭ ‬بعدما‭ ‬نقل‭ ‬إلى‭ ‬وزارة‭ ‬الزراعة،‭ ‬كما‭ ‬نقل‭ ‬قبله‭ ‬الشاعر‭ ‬سعدي‭ ‬يوسف‭ ‬إلى‭ ‬وزارة‭ ‬الري‭ .‬كانت‭ ‬العزلة‭ ‬المفروضة‭ ‬عليه‭ ‬منذ‭ ‬1977‭ ‬هي‭ ‬الوحدة‭ ‬الرهبانية‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬يراجع‭ ‬مشروعه‭ ‬الفكري،‭ ‬وينقله‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الآفاق‭ ‬المستجدة‭ .‬إذ‭ ‬ترك‭ ‬جانباً‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬عن‭ ‬مشكلات‭ ‬ثورات‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني،‭ ‬وتطلعات‭ ‬فانون‭ ‬في‭ ‬فضح‭ ‬مشكلات‭ ‬البورجوازية‭ ‬الوطنية‭ .‬فكل‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬الإصلاح‭ ‬الزراعي‭ ‬والمسألة‭ ‬الفلاحية‭ ‬والتأميم‭ ‬وعثرات‭ ‬الأحزاب‭ ‬‭(‬ثورية‭ ‬مراهقة،‭ ‬انتهازية،‭ ‬بيروقراطية‭ ..‬إلخ‭)‬‭ ‬بدا‭ ‬شارات‭ ‬ولادة‭ ‬زائفة‭ .‬وكان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬مراجعة‭ ‬أخرى،‭ ‬لكنها‭ ‬مراجعة‭ ‬تبني‭ ‬على‭ ‬كتابين‭ ‬أساسيين‭ ‬من‭ ‬كتبه‭ ‬السابقة‭:‬

-‬‭ ‬الحرية‭ ‬والثورة‭ ‬الناقصة‭ ‬‭(‬1971‭)‬‭.‬

2‭-‬‭ ‬مجموعته‭ ‬القصصية‭ ‬“الديك‭ ‬وقصص‭ ‬أخرى”؛‭ ‬وكذلك‭ ‬رواية‭ ‬‭(‬المناضل‭)‬‭ ‬التي‭ ‬طلب‭ ‬السكرتير‭ ‬العام‭ ‬للحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬عامر‭ ‬عبدالله‭ ‬من‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ ‬إيقاف‭ ‬عزيز‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬بقية‭ ‬أجزائها،‭ ‬وكان‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬قد‭ ‬كلف‭ ‬رسمياً‭ ‬الناقد‭ ‬وعضو‭ ‬الحزب‭ ‬المتقدم‭ ‬آنذاك‭ ‬فاضل‭ ‬ثامر‭ ‬بنشر‭ ‬قراءة‭ ‬تكفيرية‭ ‬‭(‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬السياسي‭)‬‭ ‬للرواية‭ .‬وظهرت‭ ‬مطالعته‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬ألف‭ ‬باء‭ ‬التي‭ ‬يرأس‭ ‬تحريرها‭ ‬حينذاك‭ ‬الشاعر‭ ‬سامي‭ ‬مهدي‭.

والناصية‭ ‬مهمة‭ ‬لأن‭ ‬الأحزاب‭ ‬التقليدية،‭ ‬وقبيل‭ ‬اندفاعة‭ ‬الأحزاب‭ ‬الدينية،‭ ‬تمسكت‭ ‬بالمنظومة‭ ‬الذرائعية‭ ‬للحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬فبدا‭ ‬مستهجناً‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬المفكر‭ ‬ويعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬أولوياته‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬المستجدات‭ ‬المحلية‭ ‬والقومية‭ ‬والعالمية‭ .‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬يبدو‭ ‬هربرت‭ ‬ماركوز‭ ‬وروجيه‭ ‬غارودي‭ ‬وآخرين‭ ‬متهمين‭ ‬لخروجهم‭ ‬على‭ ‬التحجر‭ ‬والبيروقراطية‭ ‬التي‭ ‬نالت‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬الماركسي‭ .‬ولم‭ ‬يَزل‭ ‬بعض‭ ‬مثقفي‭ ‬الأحزاب‭ ‬يعجزون‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬التحول‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬المحرك‭ ‬الفعلي‭ ‬للعمل‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي‭.‬

كان‭ ‬عزيز‭ ‬يتوقع‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التنكر‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬‭(‬مثقفي‭)‬‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬عندما‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬الموضوع‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‭(‬الحرية‭ ‬والثورة‭ ‬الناقصة‭-‬الصادر‭ ‬سنة‭ ‬1971‭)‬‭ .‬يقول‭ ‬في‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬ضعف‭ ‬الثقافة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الستالينية‭ ‬“هكذا،‭ ‬وبتحجر‭ ‬الثقافة‭ ‬أوقفت‭ ‬الإبداعات‭ ‬السوفيتية‭ ‬وعطلت‭ ‬الإمكانيات‭ ‬بميلاد‭ ‬فيلسوف‭ ‬سوفييتي‭ .‬وكأن‭ ‬الفلسفة‭ ‬قد‭ ‬انتهت‭ ‬باللينينية‭ .‬‭(‬راجع‭ ‬“الحرية‭ ‬والثورة‭ ‬الناقصة”،‭ ‬بيروت،‭ ‬المؤسسة‭ ‬العربية‭ ‬للدراسات‭ ‬والنشر،‭ ‬1971،‭ ‬ص‭ ‬61‭.‬‭)‬‭ .‬ويضيف‭ ‬أن‭ ‬طرائق‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬التحجر‭ ‬عند‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬استبعدت‭ ‬تماماً‭ ‬حينذاك،‭ ‬مذكراً‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬ألتوسير‭ ‬أراد‭ ‬لفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬المحنة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مراجعة‭ ‬داخلية‭ ‬للفكر‭ ‬الاشتراكي‭ .‬يقول‭ ‬“وعلى‭ ‬أهمية‭ ‬رأي‭ ‬‭(‬ألتوسير‭)‬‭ ‬بضرورة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬‭(‬لينين‭)‬‭ ‬كما‭ ‬تعامل‭ ‬‭(‬لينين‭)‬‭ ‬مع‭ ‬‭(‬ماركس‭)‬،‭ ‬فالوضع‭ ‬الراهن‭ ‬للثقافة‭ ‬داخل‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بذلك‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬لأنه‭ ‬يندد‭ ‬بإعدام‭ ‬أي‭ ‬اتجاه‭ ‬أو‭ ‬بادرة‭ ‬تقود‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الرأي‭ ‬المذكور‭ .‬ويضيف‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬ظاهرة‭ ‬‭(‬الخروج‭ ‬الفكري‭)‬،‭ ‬“وما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭ ‬من‭ ‬اتجاهات‭ ‬لتكسير‭ ‬الحواجز‭ ‬المسماة‭ ‬‭(‬ستالينية‭)‬‭ ‬هو‭ ‬الظاهرة‭ ‬الطبيعية‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬الانزلاق‭ ‬مجدداً‭ ‬في‭ ‬انحدار‭ ‬الموجات‭ ‬البورجوازية‭ ‬والمتولدة‭ ‬بسبب‭ ‬الحجر‭ ‬الثقافي‭ ‬الواسع‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬حجر‭ ‬المجموع‭ ‬داخل‭ ‬إطار‭ ‬متكلس‭ ‬وليس‭ ‬حجر‭ ‬الشواذ‭\’‬،‭.‬

كان‭ ‬ديدن‭ ‬عزيز‭ ‬في‭ ‬‭(‬الحرية‭ ‬والثورة‭ ‬الناقصة‭)‬‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬القصص‭ ‬والرواية‭ ‬وما‭ ‬يليها‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬‭(‬الزهر‭ ‬الشقي،‭ ‬والمفتون‭)‬‭ ‬هو‭ ‬إعلاء‭ ‬مفهوم‭ ‬الحرية‭ .‬فلا‭ ‬ثورة،‭ ‬ولا‭ ‬فكر‭ ‬بدون‭ ‬رصيد‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬الحرية،‭ ‬بكل‭ ‬مساقاتها‭ ‬وشروطها‭ .‬وليس‭ ‬مستغرباً‭ ‬أن‭ ‬ينحاز‭ ‬المفكر‭ ‬المغربي‭ ‬عبدالله‭ ‬العروي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‭(‬مفهوم‭ ‬الحرية‭)‬‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬وهو‭ ‬يتأمل‭ ‬استرجاع‭ ‬عزيز‭ ‬لما‭ ‬يعده‭ ‬العروي‭ ‬انحيازاً‭ ‬لماركس‭ ‬الشاب‭ .‬لربما‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬لكن‭ ‬عزيزاً‭ ‬كان‭ ‬مسكوناً‭ ‬بالحرية‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تذبح‭ ‬تحت‭ ‬شتى‭ ‬الشروط‭ ‬والأعذار‭ ‬والمسببات‭ ‬وسيعيد‭ ‬عزيز‭ ‬خلاصة‭ ‬أفكاره‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬موسع‭ ‬أجراه‭ ‬معه‭ ‬الراحل‭ ‬فاروق‭ ‬البقيلي‭ ‬ولم‭ ‬يعثر‭ ‬عليه‭ ‬ثانية‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1995‭ ‬عندما‭ ‬نشر‭ ‬تقديماً‭ ‬عنه‭ ‬مشفوعاً‭ ‬بقصائد‭ ‬صوفية‭ .‬بينما‭ ‬ظهرت‭ ‬أربع‭ ‬حلقات‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬البيان‭ ‬في‭ ‬دبي‭ ‬‭(‬الخميس‭ ‬‮ ‬21‭ ‬تشرين‭ ‬الثاني‭/‬نوفمبر‭ ‬‮ ‬1996،‭ ‬ص‭ ‬30‭)‬‭ .‬كانت‭ ‬عتبة‭ ‬الحوار‭ ‬تقول‭:‬

‭(‬لقد‭ ‬ذبح‭ ‬الكبش‭ ‬فداءً

لإسماعيل‭ ‬ولكن‭ ‬لو‭ ‬ذبح

إسماعيل‭ ‬فما‭ ‬قيمة‭ ‬أن‭ ‬يذبح‭ ‬الكبش‭)‬‭.‬

تحطيم‭ ‬الصنم

كان‭ ‬التساؤل‭ ‬يعيد‭ ‬مفهوم‭ ‬‭(‬الحرية‭)‬‭ ‬إلى‭ ‬بديهيات‭ ‬الفعل‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي،‭ ‬ويضع‭ ‬اللوم‭ ‬على‭ ‬السلطات‭ ‬التي‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬تغير‭ ‬فعلي‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬الدولة‭ ‬وشروط‭ ‬نجاحها‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬تديره‭ ‬المعرفة‭ ‬والرأسمال‭ .‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬البعد‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬للعتبة‭ ‬المذكورة،‭ ‬فلأن‭ ‬تأصيلها‭ ‬لمفهومية‭ ‬الطقس‭ ‬الديني‭ ‬‭(‬طقس‭ ‬الفداء‭)‬‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يغيب،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الطقس‭ ‬يسقط‭ ‬تماماً‭ ‬عند‭ ‬انقلاب‭ ‬المعادلة،‭ ‬وهو‭ ‬انقلاب‭ ‬تحقق‭ ‬فعلاً‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬سلطة‭ ‬القمع‭ ‬قديماً‭ ‬وحديثاً‭ .‬ولهذا‭ ‬يكتب‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬ملف‭ ‬أعدته‭ ‬عنه‭ ‬مجلة‭ ‬الأقلام‭ ‬العراقية‭ ‬سنة‭ ‬1990‭ ‬“من‭ ‬الأمور‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬تخفيف‭ ‬المنهج‭ ‬المادي‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬تأثرت‭ ‬به‭ ‬سابقاً‭ ..‬شعوري‭ ‬بقيمة‭ ‬الحرية،‭ ‬وبخاصة‭ ‬حرية‭ ‬الفكر”‭ ‬‭(‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم،‭ ‬ملف‭ ‬خاص،‭ ‬مجلة‭ ‬الأقلام،‭ ‬تموز‭ ‬1990،‭ ‬ص‭ ‬111‭)‬‭ .‬‮ ‬فبدون‭ ‬الحرية‭ ‬لا‭ ‬ينشأ‭ ‬الفكر،‭ ‬وعندما‭ ‬ينشأ‭ ‬معارضاً‭ ‬فإنه‭ ‬سيكون‭ ‬مثقلاً‭ ‬بهاجس‭ ‬المعارضة‭ ‬المبطنة‭ ‬التي‭ ‬تمنع‭ ‬عليه‭ ‬الإعلان‭ ‬وتلجئه‭ ‬إلى‭ ‬الاستعارة‭ ‬والمجاز‭ .‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬سيكون‭ ‬عليه‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬النهار‭ ‬“ديالكتيك‭ ‬العلاقة‭ ‬المعقدة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬المادية‭ ‬والمثالية”‭ .‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬قراءة‭ ‬للعقلاني‭ ‬والمعجز،‭ ‬جادات‭ ‬الافتراق‭ ‬والالتقاء‭ .‬ويحشد‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬قبيل‭ ‬اشتعال‭ ‬سعير‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬لبنان‭ ‬وموجه‭ ‬احتلال‭ ‬إسرائيل‭ ‬للجنوب‭ ‬وبيروت‭ ‬سنة‭ ‬1982،‭ ‬كافة‭ ‬الأدلة‭ ‬والشواهد‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬التباس‭ ‬خطابي‭ ‬النهضة‭ ‬والتنوير‭ ‬الأوروبي،‭ ‬وصعوبة‭ ‬اعتمادهما‭ ‬كلية‭ ‬في‭ ‬الخارطة‭ ‬الفكرية‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬تتلمس‭ ‬طريقها‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والسياسي‭ .‬وخلف‭ ‬هذا‭ ‬الحشد‭ ‬والجدل‭ ‬المفعم‭ ‬كان‭ ‬يجري‭ ‬تحطيم‭ ‬‭(‬الصنمية‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬يسميها،‭ ‬أي‭ ‬ظهور‭ ‬القائد‭ ‬الفرد،‭ ‬القائد‭ ‬الضرورة،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬هدمه‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬النبي‭ ‬الشاب‭ ‬إبراهيم‭ ‬وهو‭ ‬يكسر‭ ‬الأصنام‭ .‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأيّ‭ ‬رسالة‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬تحت‭ ‬سطوة‭ ‬الصنم‭ ‬المعبود‭ .‬هنا‭ ‬يكمن‭ ‬رابط‭ ‬الوصل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬كتابه‭ ‬“الحرية‭ ‬والثورة‭ ‬الناقصة”‭ ‬و”ديالكتيك‭ ‬العلاقة‭ ‬المعقدة”،‭ ‬وما‭ ‬القصص‭ ‬إلاّ‭ ‬تنويعات‭ ‬مجازية‭ ‬متعددة‭ ‬على‭ ‬مشكلة‭ ‬الحرية‭ ‬والثورة‭ .‬وكانت‭ ‬قصته‭ ‬‭(‬السيد‭ ‬س‭)‬‭ ‬هي‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬اختناق‭ ‬الفرد‭ ‬الكافكوي‭ ‬في‭ ‬مصائد‭ ‬السلطة‭ ‬‭(‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم،‭ ‬الديك‭ ‬وقصص‭ ‬أخرى،‭ ‬القاهرة،‭ ‬الهيأة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب،‭ ‬1987،‭ ‬صفحات‭ ‬8‭-‬26‭)‬‭ .‬نشرت‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‭(‬المعرفة‭ ‬السورية،‭ ‬العدد‭ ‬209،‭ ‬تموز‭ ‬1979‭)‬‭ .‬ويرى‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم،‭ ‬وعلى‭ ‬خلاف‭ ‬دارسي‭ ‬أصول‭ ‬الحكم،‭ ‬أن‭ ‬مشكلة‭ ‬أنظمة‭ ‬الحكم‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬الراشدين‭ ‬لم‭ ‬تعان‭ ‬من‭ ‬الفساد‭ ‬كعلة‭ ‬أساسية،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬‭(‬التوثين‭)‬‭ .‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الوثنية‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬الحكم‭ ‬والحاكم‭ ‬مقدسين‭ ‬هي‭ ‬أصل‭ ‬الداء‭ .‬لقد‭ ‬أسقطت‭ ‬الخلافات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬قداسة‭ ‬تصادر‭ ‬رأي‭ ‬الآخر‭ ‬بينما‭ ‬تغرق‭ ‬نفسها‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يناقض‭ ‬أيّ‭ ‬قداسة‭ ‬سماوية‭ ‬‭(‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم،‭ ‬جدل‭ ‬العلاقة‭ ‬المعقدة‭ ‬بيروت‭: ‬دار‭ ‬النهار1982‭)‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬د‭ .‬محسن‭ ‬الموسوي،‮ ‬الاستشراق‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي،‭ ‬عمان،‭ ‬المؤسسة‭ ‬العربية‭ ‬1993‭)‬‭.‬

وناصية‭ ‬‭(‬التوثين‭)‬‭ ‬التي‭ ‬يدينها‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬تعد‭ ‬مرتكزاً‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬والأفكار‭ ‬التي‭ ‬يعرض‭ ‬لها‭ ‬تحليلاً‭ ‬وتفكيكاً،‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬يجري‭ ‬تفريقاً‭ ‬بين‭ ‬المكونات‭ ‬الوجودية،‭ ‬ويسعى‭ ‬للفصل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬كامو‭ ‬وسارتر‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬في‭ ‬مقالته‭ ‬“نظرات‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الوجودي”،‭ ‬فإنه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬اليد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬في‭ ‬مقالة‭ ‬نشرتها‭ ‬مجلة‭ ‬الآداب‭ ‬سنة‭ ‬1967‭ ‬جوهر‭ ‬الكتابة‭ ‬الوجودية،‭ ‬تشخيص‭ ‬الشيء‭ ‬الجوهري،‭ ‬لدى‭ ‬الوجودية‭ ‬أي‭ ‬وضعها‭ ‬اليد‭ ‬على‭ ‬محرك‭ ‬الوجود‭ ‬وقبطانه‭ ‬أو‭ ‬الإنسان‭ ‬كذات‭ ‬وكمجموعة‭ ‬بشرية‭ ‬“وإذا‭ ‬بكل‭ ‬مقدس‭ ‬‭(‬لا‭ ‬يطال‭)‬‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الفحص‭ ‬والاختبار‭ ‬وإثبات‭ ‬أو‭ ‬نفي‭ ‬المشروعية”‭ ‬‭(‬أعيد‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬كتابه،‭ ‬دراسات‭ ‬نقدية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الحديث‭ ‬بغداد،‭ ‬الإرشاد،‭ ‬1970‭)‬،‭ ‬‭(‬ط‭ .‬ثانية،‭ ‬القاهرة‭-‬الهيئة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب،‭ ‬سنة‭ ‬1996،‭ ‬ص‭ ‬191‭

‬‭.‬

وهذه‭ ‬العتبة‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬تبقيه‭ ‬انتقائياً‭ ‬لصياغة‭ ‬أفكاره،‭ ‬فهو‭ ‬مثلاً‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬المفكر‭ ‬المصري‭ ‬أنور‭ ‬عبدالملك‭ ‬بشأن‭ ‬رفض‭ ‬فلسفة‭ ‬الانتحار‭ ‬عند‭ ‬كامو‭ ‬‭(‬‭ ‬يراجع‭ ‬ملف‭ ‬مجلة‭ ‬الأقلام‭ ‬،1990،‭ ‬ص‭ ‬108‭)‬،‭ ‬لكنه‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬سارتر‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬“لا‭ ‬سبيل‭ ‬إلا‭ ‬الحرية‭ ‬إلا‭ ‬بمقاومة‭ ‬الغاصب”‭ ‬‭(‬راجع‭ ‬حميد‭ ‬سعيد،‭ ‬“بعيداً‭ ‬عن‭ ‬مصادر‭ ‬الأحادية‭ ‬الشعرية”،‭ ‬ملف‭ ‬مجلة‭ ‬الأقلام‭ ‬،‭ ‬تموز‭ ‬1990،‭ ‬ص‭ ‬121‭)‬‭ .‬وبدل‭ ‬أن‭ ‬يبقي‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬رهانه‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬الاختبارات‭ ‬المذكورة،‭ ‬كان‭ ‬يبني‭ ‬لنفسه‭ ‬جادته‭ ‬الثقافية‭ ‬والفكرية‭ .‬وكان‭ ‬الشاعر‭ ‬حميد‭ ‬سعيد،‭ ‬الذي‭ ‬رافقه‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬السبعينات‭ ‬،‭ ‬يقول‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬ملف‭ ‬الأقلام‭ ‬1995‭ ‬“إن‭ ‬اليقين‭ ‬عنده‭ ‬منطقة‭ ‬جد‭ ‬نائية‭ ‬لا‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬تخومها‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬عذابات‭ ‬الشك‭ ‬وحرائق‭ ‬الأسئلة”‭ ‬‭(‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬المرجع‭ ‬السابق‭)‬‭ .‬وقراءة‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬المبكرة‭ ‬للفكر‭ ‬الوجودي‭ ‬تتميز‭ ‬بهذا‭ ‬التفريق،‭ ‬لكنه‭ ‬التفريق‭ ‬الذي‭ ‬يتعمد‭ ‬اختراق‭ ‬الخيارات‭ ‬نحو‭ ‬تكثيف‭ ‬مغاير‭ ‬لجادة‭ ‬الإنسان‭ ‬وبحثه‭ ‬عن‭ ‬الحرية‭ .‬فهو‭ ‬مثلاً‭ ‬يقول‭ ‬عن‭ ‬كامو‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الدراسة‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الآداب‭ ‬أن‭ ‬كامو‭ ‬“لم‭ ‬يلتزم‭ ‬الالتزام‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينكره”‭ .‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقوله‭ ‬عن‭ ‬سارتر‭ ‬لأن‭ ‬الأخير‭ ‬جاء‭ ‬بـ‭ ‬“مزاوجته‭ ‬الوجودية‭ ‬مع‭ ‬ديالكتيكية‭ ‬علمية‭ ‬تاريخية”‭ ‬‭(‬راجع‭ ‬“دراسات‭ ‬نقدية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الحديث،‭ ‬ص‭ ‬194‭)‬‭ .‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬الملاحظة‭ ‬ليست‭ ‬طارئة‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ .‬ولنتوقف‭ ‬قليلاً‭ ‬عند‭ ‬مؤاخذاته‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬جيل‭ ‬الستينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬من‭ ‬العرب،‭ ‬وبضمنهم‭ ‬كتّاب‭ ‬الجيل‭ ‬السابق‭ ‬كمطاع‭ ‬صفدي‭ ‬في‭ ‬روايتيه‭ ‬“جيل‭ ‬القدر”‮ ‬و”ثائر‭ ‬محترف”،‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الوجود‭ ‬الفردي‭ ‬الحر‭ ‬قد‭ ‬ضاع‭ ‬في‭ ‬‭(‬قفزات‭ ‬مبدعة‭)‬،‭ ‬ينقصها‭ ‬“وعي‭ ‬أصيل‭ ‬مدرك‭ ‬لشروط‭ ‬التاريخ‭ ‬وصيرورة‭ ‬الأشياء‭ ‬وكينونتها‭ ‬وحيويتها”‭ .‬ويضيف‭ ‬“إنها‭ ‬لم‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬بصيرة‭ ‬ثابتة‭ ‬متطلعة‭ ‬مستطلعة‭ ‬كاشفة‭ ‬تعتمد‭ ‬في‭ ‬متحها‭ ‬وعطائها‭ ‬على‭ ‬نضوج‭ ‬فكري‭ ‬مخصب‭ ‬تنشطه‭ ‬التجربة‭ ‬والعمل‭ ‬‭(‬المصدر‭ ‬نفسه،‭ ‬195‭)‬‭ .‬وكذلك‭ ‬‭(‬د‭ .‬محسن‭ ‬الموسوي،‭ ‬النخبة‭ ‬الفكرية‭ ‬والانشقاق‭: ‬تحولات‭ ‬الصفوة‭ ‬العارفة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬بيروت،‭ ‬دار‭ ‬الآداب،‭ ‬2001،‭ ‬ص‭ ‬60‭-‬69‭)‬‭.‬

وعند‭ ‬هذه‭ ‬الناصية‭ ‬يحيل‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬إلى‭ ‬سياقين‭: ‬أولهما‭ ‬السياق‭ ‬العملي‭ ‬‭(‬التجربة‭ ‬والعمل‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬ميز‭ ‬حياته‭ ‬الشابة‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬والمدينة‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬وفي‭ ‬التنظيمات‭ ‬الطلابية‭ ‬والفلاحية،‭ ‬وثانيهما،‭ ‬التجذير‭ ‬الماركسي‭ ‬لفكره‭ .‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬ضمناً‭ ‬مزاوجة‭ ‬عسيرة‭ ‬تسعى‭ ‬لردم‭ ‬الهوة‭ ‬بين‭ ‬تناقضين‭: ‬التاريخ‭ ‬والحرية‭ .‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“الحرية‭ ‬والثورة‭ ‬الناقصة‭ ‬1971‮»‬،‭ ‬“التاريخ‭ ‬هو‭ ‬تحقيق‭ ‬الحرية‭ ‬حسب‭ ‬شرطي‭ ‬الفهم‭ ‬الصحيحين‭ ‬الهيغلي‭ ‬والماركسي،‭ ‬ولكن‭ ‬صحة‭ ‬التاريخ‭ ‬ونشاطيته‭ ‬تبقى‭ ‬معلقة‭ ‬مادامت‭ ‬الحرية‭ ‬مفتقدة‭ ‬وباقية‭ ‬كموضوع‭ ‬مجاهدة”‭.‬

ولهذا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬عبدالله‭ ‬العروي‭ ‬يحار‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬مدخل‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬حول‭ ‬موضوع‭ ‬الحرية،‭ ‬فيكتب‭ ‬قائلاً‭ ‬عن‭ ‬المؤلف‭ ‬وكتابه‭ ‬“التناقض‭ ‬موجود‭ ‬بالفعل‭ ‬عند‭ ‬ماركس‭ ‬الشاب،‭ ‬وحتى‭ ‬عند‭ ‬هيغل‭ ‬الشاب”،‭ ‬لكن‭ ‬السبب‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬المؤلف‭ ‬‭(‬أي‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭)‬‭ ‬يعي‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬يستعمل‭ ‬مفهوم‭ ‬التاريخ‭ ‬كالماركسيين‭ ‬ومفهوم‭ ‬الحرية‭ ‬كالوجوديين‭ .‬لو‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬ماركسية‭ ‬أنجلس‭ ‬مثلاً‭ ‬لما‭ ‬أحس‭ ‬أبداً‭ ‬بهذا‭ ‬التناقض‭ ‬لأنه‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬سيرجئ‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬المطلقة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬التاريخ‭ .‬طلبه‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬التاريخ‭ ‬كما‭ ‬يعيشه‭ ‬الإنسان‭ ‬الآن‭ ‬هو‭ ‬طلب‭ ‬الوجوديين‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬ثار‭ ‬كيركغارد‭ ‬ضد‭ ‬مفهوم‭ ‬الموضوع،‭ ‬أي‭ ‬مفهوم‭ ‬التاريخ‭ ‬عند‭ ‬هيغل‭ ‬‭(‬راجع‭ ‬عبدالله‭ ‬العروي،‭ ‬مفهوم‭ ‬الحرية،‭ ‬بيروت،‭ ‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬1993،‭ ‬ص‭ ‬78‭.‬‭)‬‭.‬

ولا‭ ‬أدري‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬قد‭ ‬اطّلع‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬عبدالله‭ ‬العروي‭ .‬لكنه‭ ‬وفي‭ ‬المقالات‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬جريدة‭ ‬العراق‭ ‬الكردية‭ ‬‭(‬6‭ ‬كانون‭ ‬الثاني‭/‬يناير‭ ‬1991‭)‬‭ ‬قبيل‭ ‬اقتياده‭ ‬من‭ ‬الشارع‭ ‬والبطش‭ ‬به‭ ‬ليلة‭ ‬15‭/‬4‭/‬1991،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬إلى‭ ‬الأذهان‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬تكوين‭ ‬رؤية‭ ‬فكرية‭ ‬تستوعب‭ ‬التجربة‭ ‬والخصوصية‭ ‬والفكر‭ ‬لا‭ ‬الإحالة‭ ‬السلبية‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬العالمي‭ .‬ولهذا‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬بعنوان‭ ‬“النخبة‭ ‬والفكر”،‭ ‬“لقد‭ ‬ازدهرت‭ ‬الوجودية‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬لكن‭ ‬ثمارها‭ ‬الأخيرة‭ ‬كانت‭ ‬تمضي‭ ‬إلى‭ ‬الفاتيكان‭ .‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬سارتر‭ ‬إلا‭ ‬محاولة‭ ‬عبقرية‭ ‬أخيرة‭ ‬للالتفاف‭ ‬على‭ ‬مسيحية‭ ‬هايديغر‭ ‬وكيركغارد‭ ‬وفنومولوجيا‭ ‬هوسرل”،‭ ‬ولذلك‭ ‬تحوط‭ ‬من‭ ‬الماركسية‭ ‬بادعاء‭ ‬الصلة‭ ‬بها‭ ‬باعتبارها‭ ‬الفلسفة‭ ‬الأم‭ ‬‭(‬أعيد‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬محسن‭ ‬الموسوي،‭ ‬النخبة‭ ‬الفكرية،‭ ‬الملحق،‭ ‬111‭-‬116‭)‬‭.‬

بالون‭ ‬معلق

ولأجل‭ ‬تقريب‭ ‬صورة‭ ‬النخبة‭ ‬من‭ ‬القراء،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متسامحاً‭ ‬أبداً‭ ‬مع‭ ‬المثقفين،‭ ‬والمهنيين،‭ ‬الذين‭ ‬بدوا‭ ‬كخراف‭ ‬معدة‭ ‬للذبح‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬المصدر‭ ‬نفسه‭ ‬“يجوز‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نشبه‭ ‬النخبة‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الآسيوية‭ ‬والأفريقية‭ ‬ببالون‭ ‬معلق‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬تسميات‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬فهي‭ ‬مقطوعة‭ ‬عن‭ ‬الماضي،‭ ‬مقصومة‭ ‬عن‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭ .‬لقد‭ ‬تقربت‭ ‬هذه‭ ‬النخبة‭ ‬كثيراً‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬باسم‭ ‬تمجيد‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وإلى‭ ‬روسيا‭ ‬باسم‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر‭ ‬السوفييتية،‭ ‬ولكن‭ ‬فاتها‭ ‬أن‭ ‬البلدين‭ ‬هجرا‭ ‬ثورتيهما‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ ‬وأنهما‭ ‬مندمجان‭ ‬بآلية‭ ‬الركب‭ ‬العالمي‭ ‬للإمبريالية‭ ‬بصورة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى”‭ .‬ومثل‭ ‬هذا‭ ‬الاستخلاص‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬جزافاً‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬أبقى‭ ‬نصب‭ ‬عينيه‭ ‬أهمية‭ ‬“التركيز‭ ‬على‭ ‬الخصوصية‭ ‬التاريخية‭ ‬للتطور‭ ‬القومي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬النخب‭ ‬الفكرية‭ ‬واستيعاب‭ ‬كافة‭ ‬الدروس‭ ‬العالمية‭ ‬التي‭ ‬تحمي‭ ‬نهج‭ ‬الاستقلال‭ ‬القومي‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬والاقتصاد‭ ‬معاً”‭ .‬وكان‭ ‬يدعو‭ ‬جاهداً‭ ‬إلى‭ ‬تبين‭ ‬سلالات‭ ‬نسب‭ ‬الفكر‭ ‬العالمي‭ ‬وانتهائه‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬الآن،‭ ‬ولهذا‭ ‬يكتب‭ ‬ما‭ ‬يعد‭ ‬ملاحظة‭ ‬أخيرة‭ ‬لتأكيد‭ ‬مقولات‭ ‬سابقة‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن‭ ‬“لقد‭ ‬كانت‭ ‬الموجات‭ ‬الفكرية‭ ‬لأوروبا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬ترسل‭ ‬الطيور‭ ‬الملونة‭ ‬إلى‭ ‬العقول‭ ‬الفتية‭ ‬للعالم‭ ‬الثالث‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬الرؤية‭ ‬الوطنية‭ ‬للنخبة‭ ‬الفكرية‭ ‬إدراك‭ ‬جدل‭ ‬أوروبا‭ ‬الصاعدة‭ .‬كانت‭ ‬أوروبا‭ ‬باهرة‭ ‬وابتدأ‭ ‬ازدهارها‭ ‬الفكري‭ ‬بعصر‭ ‬التنوير‭ ‬أولاً،‭ ‬ثم‭ ‬بالاشتراكية‭ ‬ثانياً،‭ ‬ثم‭ ‬بالوجودية‭ ‬ثالثاِ‭ .‬وكان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يتوصل‭ ‬المثقفون‭ ‬الوطنيون‭ ‬إلى‭ ‬إدراك‭ ‬الحقيقة‭ ‬الساطعة،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬الوجودية‭ ‬كانت‭ ‬نهاية‭ ‬العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬للفكر‭ ‬الأوروبي،‭ ‬وهو‭ ‬يفضي‭ ‬إما‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬أو‭ ‬بدء‭ ‬عصر‭ ‬مسيحي‭ ‬جديد”‭.‬

وليس‭ ‬خفياً‭ ‬ولا‭ ‬خافياً‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الاستنتاجات‭ ‬تخفي‭ ‬خلفها‭ ‬ما‭ ‬بذل‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬جهداً‭ ‬في‭ ‬إيضاحه‭ ‬عندما‭ ‬قرر‭ ‬الانكباب‭ ‬على‭ ‬آليات‭ ‬التثقيف‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فجدله‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“ديالكتيك‭ ‬العلاقة‭ ‬المعقدة”‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬النهار‭ ‬عشية‭ ‬الاجتياح‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬أراد‭ ‬وضع‭ ‬اليد‭ ‬على‭ ‬الخصوصية‭ ‬المعتقدية،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تجتمع‭ ‬عندها‭ ‬الفلسفة‭ ‬العقلية‭ ‬بالإيمان‭ ‬الديني‭ ‬وحواشيه‭ ‬في‭ ‬المعجز‭ ‬والمقدس‭ ‬والسحري‭ ‬والنبوئي‭ ‬والحلمي،‭ ‬وكذلك‭ ‬على‭ ‬الظواهر‭ ‬المتوالدة‭ ‬في‭ ‬برزخ‭ ‬هذا‭ ‬الرس‭ ‬المعتقدي،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بوثنية‭ ‬المعبود‭ ‬ليتربع‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ .‬وكان‭ ‬أن‭ ‬دأب‭ ‬على‭ ‬معالجة‭ ‬ما‭ ‬أعده‭ ‬مشكلات‭ ‬اجتماعية‭ ‬لا‭ ‬تثير‭ ‬الريبة،‭ ‬ولهذا‭ ‬انكب‭ ‬على‭ ‬قضية‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬كتابين‭ ‬هما‭ ‬“حق‭ ‬المرأة”‭ ‬و”المفهوم‭ ‬التاريخي‭ ‬للمرأة”‭ .‬كلاهما‭ ‬صدرا‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العراقية‭ ‬الإيرانية‭ .‬وبعدهما‭ ‬ظهر‭ ‬كتاب‭ ‬“الحضارة‭ ‬والاغتراب”‭ ‬ليعيد‭ ‬الانتباه‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬توالد‭ ‬الغرباء‭ ‬والغربة،‭ ‬ليشفعه‭ ‬بقراءة‭ ‬الشريف‭ ‬الرضيّ‭ ‬مغترباً،‭ ‬ولهذا‭ ‬كان‭ ‬كتابه‭ ‬“الاغتراب‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬الشريف‭ ‬الرضي”،‭ ‬وجاءت‭ ‬كتبه‭ ‬تتويجاً‭ ‬لهذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالتوالدات‭ ‬المغايرة‭ ‬داخل‭ ‬الثقافة‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬الإسلام‭ .‬وكان‭ ‬كتابه‭ ‬“محمد‭: ‬الحقيقة‭ ‬العظمى”‭ ‬بمثابة‭ ‬مسعاه‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الابتداء‭ ‬لإعادة‭ ‬تكوين‭ ‬الفكر‭ ‬التاريخي‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬ليرفده‭ ‬بكتاب‭ ‬“علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭: ‬سلطة‭ ‬الحق”‭ .‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬معنياً‭ ‬بإعادة‭ ‬المدونة‭ ‬التاريخية‭ ‬أو‭ ‬اعتماد‭ ‬المؤرخين‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬المسار‭ ‬التسلسلي‭ ‬للزمن‭ ‬الإسلامي‭ .‬كان‭ ‬همه‭ ‬لفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬خصوصيات‭ ‬التجربة،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يقرنها‭ ‬دائماً‭ ‬بالهمّ‭ ‬الآني،‭ ‬‭(‬همّ‭ ‬الاستقلال‭ ‬القومي‭ ‬المعاصر‭ ‬اليوم‭)‬‭ ‬كما‭ ‬يسميه‭ ‬في‭ ‬المقالات‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬العراق‭.‬

يقول‭ ‬“إن‭ ‬مشروع‭ ‬الاستقلال‭ ‬القومي‭ ‬المعاصر‭ ‬اليوم،‭ ‬يقوم،‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يقوم،‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬البناء‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬المواطن‭ ‬الحر‭ ‬المحترم‭ ‬قوامه‭ ‬الرئيس‭ .‬فالاستقلال‭ ‬القومي‭ ‬وحرية‭ ‬الإنسان‭ ‬أمران‭ ‬متلازمان‭ ‬بصورة‭ ‬جوهرية”‭.‬

يعيد‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬فكرة‭ ‬التلازم‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬حرية‭ ‬المواطن‭ ‬والاستقلال‭ ‬القومي‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬نشره‭ ‬مجموعة‭ ‬كتبه‭ ‬الرائجة،‭ ‬ومنها‭ ‬“جدل‭ ‬القومية‭ ‬وتطبيقه‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬التاريخي‭ ‬لنشوء‭ ‬الأمة‭ ‬العربية”،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬“سقوط‭ ‬مدرسة‭ ‬هيكل”‭ ‬سنة‭ ‬1987‭ ‬و”مقتل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر”‭ ‬سنة‭ ‬1985‭ .‬وهو‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات‭ ‬لم‭ ‬يغفل‭ ‬هذا‭ ‬التلازم‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يتقصى‭ ‬السمات‭ ‬المضيئة‭ ‬عند‭ ‬ناصر‭ ‬وفي‭ ‬تجربته‭ .‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مؤاخذاته‭ ‬على‭ ‬التجربة‭ ‬الناصرية،‭ ‬كم‭ ‬يتبين‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“مقتل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر”‭ ‬‭(‬1985‭)‬‭ ‬وبعده‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬“سقوط‭ ‬مدرسة‭ ‬هيكل”،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬مثلت‭ ‬له‭ ‬مشكلات‭ ‬الانفراط‭ ‬في‭ ‬التلازم‭ ‬المذكور،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬بشكل‭ ‬ساطع‭ ‬في‭ ‬التجربة‭ ‬العراقية‭ .‬أي‭ ‬أن‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬عبدالناصر‭ ‬كان‭ ‬إدانة‭ ‬ضمنية‭ ‬للتجربة‭ ‬العراقية‭ ‬وصعود‭ ‬القائد‭ ‬الأوحد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعده‭ ‬رس‭ ‬الشمولية‭ ‬وسر‭ ‬سقوطها‭ ‬القريب‭ .‬وأما‭ ‬مقالات‭ ‬1991‭ ‬فهي‭ ‬بمثابة‭ ‬ترسيخ‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يقوله‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬بشأن‭ ‬التلازم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تكتمل‭ ‬الثورات‭ .‬أي‭ ‬أنه‭ ‬أحال‭ ‬إلى‭ ‬الفكر‭ ‬الوجودي‭ ‬والماركسي‭ ‬لا‭ ‬بقصد‭ ‬الركون‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬فيهما،‭ ‬ولكن‭ ‬بقصد‭ ‬استخدامهما‭ ‬انتقائياً‭ ‬لبلورة‭ ‬مفاهيم‭ ‬خاصة‭ ‬بالأمة‭ ‬العربية،‭ ‬وبالعراق‭ .‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الوجوديون‭ ‬قد‭ ‬لجأوا‭ ‬إلى‭ ‬السرد‭ ‬والرواية‭ ‬تحديداً‭ ‬لتقديم‭ ‬أفكارهم،‭ ‬فإنه‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬استعان‭ ‬بالرواية‭ ‬والقصة،‭ ‬وألِفَ‭ ‬الشعر،‭ ‬وكتب‭ ‬“مناجيات‭ ‬السبعين”‭ ‬التي‭ ‬تستكمل‭ ‬مسحة‭ ‬التصوف‭ ‬البادية‭ ‬في‭ ‬أبرز‭ ‬كتبه‭ ‬الإسلامية‭ ‬كـ”محمد‭ ‬الحقيقة‭ ‬العظمى”‭ ‬و”علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭: ‬سلطة‭ ‬الحق”‭ ‬‭(‬نشرها‭ ‬فاروق‭ ‬البقيلي‭ ‬سنة‭ ‬1995‭ ‬وأعدت‭ ‬نشرها‭ ‬في‭: ‬“عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم،‭ ‬نحو‭ ‬تحريفية‭ ‬أوسع‭ ‬للفكر‭ ‬القومي”،‭ ‬عمان،‭ ‬المؤسسة‭ ‬العربية‭ ‬للدراسات،‭ ‬2004‭)‬‭ .‬والغرض‭ ‬من‭ ‬مسحة‭ ‬التصوف‭ ‬هو‭ ‬استدعاء‭ ‬الطهارة‭ ‬الثورية،‭ ‬تلك‭ ‬الطهارة‭ ‬المستحيلة‭ ‬عندما‭ ‬تحين‭ ‬ساعة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ .‬وكما‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬“الاستشراق‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي”،‭ ‬فإن‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬عنوا‭ ‬كثيراً‭ ‬بموضوع‭ ‬‭(‬المثقف‭ ‬العضوي‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬يشير‭ ‬إليه‭ ‬هشام‭ ‬جعيط‭ ‬في‭ ‬“أوروبا‭ ‬والإسلام”،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬المثقف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الصوت‭ ‬أيضاً‭ ‬للإطلالة‭ ‬على‭ ‬مأزق‭ ‬الدولة‭ ‬القومية،‭ ‬لأنه‭ ‬“بقوته‭ ‬التكاملية”‭ ‬و”بالوصل‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬الماضي‭ ‬والتاريخ‭ ‬المستقبلي،‭ ‬وبين‭ ‬المقال‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والواقع‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬لا‭ ‬كأيديولوجي‭ ‬لنظام‭ ‬اجتماعي‭ ‬معين،‭ ‬بل‭ ‬لسان‭ ‬حال‭ ‬حضارة‭ ‬مستقبلية‭ ‬‭(‬هشام‭ ‬جعيط،‭ ‬أوروبا‭ ‬والإسلام،‭ ‬بيروت‭: ‬دار‭ ‬الحقيقة‭ ‬1980،‭ ‬146‭-‬147‭)‬‭.‬

مؤثرات‭ ‬فكرية

وعندما‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬عزيزاً‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬بلوروا‭ ‬فكراً‭ ‬له‭ ‬خصوصيته‭ ‬وفرادته‭ ‬النظرية،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نرصد‭ ‬مجموعة‭ ‬المرتكزات‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬منه‭ ‬وعبدالله‭ ‬العروي‭ ‬وهشام‭ ‬جعيط‭ ‬ومحمد‭ ‬أركون‭ ‬والطيب‭ ‬تيزيني‭ ‬ومنح‭ ‬الصلح‭ ‬وآخرين‭ ‬شركاء‭ ‬فعليين‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬فكر‭ ‬عربي،‭ ‬زاد‭ ‬عليه‭ ‬ووسع‭ ‬آفاقه‭ ‬جيل‭ ‬لاحق‭ .‬وكما‭ ‬ذكرت‭ ‬بهذا‭ ‬الصدد‭ ‬في‭ ‬“الاستشراق‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي”،‭ ‬“إن‭ ‬هؤلاء،‭ ‬يعون‭ ‬مخاطر‭ ‬الدولة‭ ‬القومية‭ ‬الضيقة‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬والواقع،‭ ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬يدركون‭ ‬الأهمية‭ ‬المتزايدة‭ ‬للمثقف‭ ‬العضوي‭ ‬الذي‭ ‬يعي‭ ‬ضرورات‭ ‬العصرانية‭ ‬من‭ ‬جانب،‭ ‬لكنه‭ ‬يلتمس‭ ‬استجماع‭ ‬مكونات‭ ‬الهوية‭ ‬القومية،‭ ‬الثقافية‭ ‬تحديداً،‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬نقدية‭ ‬للماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬واعتماد‭ ‬تاريخانية‭ ‬التحديث‭ ‬التي‭ ‬ترفض‭ ‬التمجيد‭ ‬وإسقاطات‭ ‬القداسة‭ ‬بهدف‭ ‬رؤية‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ايجابي‭ ‬والمسك‭ ‬بالحقائق‭ ‬قيد‭ ‬التكوين‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬‭(‬دينامية‭)‬‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬كذلك‭ ‬تتخطى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أحادي‭ ‬وضيق‭ ‬وهامشي‭ ‬وذرائعي‭ ‬وتلفيقي”‭.‬

لكن‭ ‬عزيزاً‭ ‬وضع‭ ‬تفصيلاً‭ ‬مبكراً‭ ‬عن‭ ‬مفهومه‭ ‬للمثقف‭ ‬العضوي،‭ ‬منطلقاً‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬غرامشي‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1971‭ ‬ليتوسع‭ ‬‮ ‬في‭ ‬ذلك سنتي‭ ‬1976‭-‬1977‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية‭ ‬والعربية‭ ‬تتوجه‭ ‬أكثر‭ ‬نحو‭ ‬القائد‭ ‬الضرورة،‭ ‬وتسعى‭ ‬لربط‭ ‬الثقافة‭ ‬بهذا‭ ‬المفهوم‭ .‬فهو‭ ‬يكتب‭ ‬سنة‭ ‬1971‮ ‬قائلاً‭ ‬“عندما‭ ‬طرح‭ ‬‭(‬غرامشي‭)‬‭ ‬موضوعة‭ ‬الحزب‭ ‬كمثقف‭ ‬جماعي‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬الأهمية‭ ‬الفائقة‭ ‬للتعالي‭ ‬على‭ ‬الأصول‭ ‬التنظيمية‭ ‬مع‭ ‬عمليتها،‭ ‬فالأصول‭ ‬التنظيمية‭ ‬وجدت‭ ‬لربط‭ ‬الأعضاء‭ ‬داخل‭ ‬بناء‭ ‬الحزب‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬له‭ ‬بدون‭ ‬الأعضاء‭ ‬وروابطهم‭ .‬فهي‭ ‬أصول‭ ‬تعاهدية‭ ‬تتناقض‭ ‬مع‭ ‬ضرورة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الحزب‭ ‬وحدة‭ ‬جماعية،‭ ‬وحدة‭ ‬ثقافية‭ ‬وعملا‭ ‬إنسانيين”‭ ‬‭(‬الحرية‭ ‬والثورة‭ ‬الناقصة،‭ ‬ص‭ ‬72‭)‬‭ .‬ويضيف‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الحزب‭ ‬“صورة‭ ‬المجتمع‭ ‬المستقبلي،‭ ‬الحلم‭ ‬الآتي‭ ‬كفعل‭ ‬وواقع‮»‬‭.‬

‮ ‬‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬للأصول‭ ‬التنظيمية‭ ‬التغير‭ ‬في‭ ‬رهان‭ ‬التحولات؟‭ ‬يجيب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬قائلاً‭ ‬“أما‭ ‬الأصول‭ ‬التنظيمية‭ ‬فهي‭ ‬تعاقد‭ ‬أولي‭ ‬يسعى‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إنهاء‭ ‬ديالكتيك‭ ‬معين،‭ ‬ديالكتيك‭ ‬السيطرة‭ ‬الإقطاعية‭ ‬أو‭ ‬البورجوازية‭ ‬مثلاً‭ ‬بديالكتيك‭ ‬ينقد‭ ‬تكريسات‭ ‬سابقة”‭ ‬‭(‬المصدر‭ ‬السابق‭)‬‭.‬

‮ ‬‭ ‬وينوه‭ ‬حينذاك‭ ‬بالمخاطر‭ ‬التي‭ ‬تعترض‭ ‬ممارسة‭ ‬الديالكتيك‭ ‬الجديد،‭ ‬مشيراً‭ ‬إلى‭ ‬ظاهرة‭ ‬الانغلاق‭ ‬والخشية‭ ‬من‭ ‬التيارات‭ ‬الفكرية،‭ ‬وبروز‭ ‬الظاهرة‭ ‬الصنمية‭ .‬يقول‭ ‬“وعبادة‭ ‬الفرد‭ ‬ظاهرة‭ ‬متممة”‭ ‬لرفض‭ ‬ديمقراطية‭ ‬العلاقة‭ ‬بالقوى‭ ‬الأخرى؛‭ ‬ومن‭ ‬شأن‭ ‬الظاهرتين‭ ‬“استمناء‭ ‬العبودية‭ ‬العظمى”‭ .‬‭(‬المصدر‭ ‬السابق‭)‬‭.‬

ولا‭ ‬يرى‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬إمكانية‭ ‬تخطي‭ ‬الخطرين‭ ‬تحصيل‭ ‬حاصل؛‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬المثقف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬ذلك،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ممارسة‭ ‬أوسع‭ ‬للدور‭ ‬الثقافي‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭ ‬والمجتمع‭ .‬ولهذا‭ ‬فعندما‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الموضوع‭ ‬ثانية‭ ‬سنة‭ ‬1977،‭ ‬تكون‭ ‬الأوضاع‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬قد‭ ‬أخذت‭ ‬تنحو‭ ‬باتجاه‭ ‬‭(‬التوثين‭)‬؛‭ ‬وكان‭ ‬السيد‭ ‬النائب‭ ‬‭(‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رئيساً‭)‬‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬يزاول‭ ‬دور‭ ‬الناقد‭ ‬للمؤسسات،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعلن‭ ‬نقده‭ ‬لمؤسسات‭ ‬القطاع‭ ‬العام‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلاّ‭ ‬خطوة‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬القطاع‭ ‬وتوسيع‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص،‭ ‬وذلك‭ ‬ضمن‭ ‬اتفاقات‭ ‬غير‭ ‬معلنة‭ ‬مع‭ ‬الجهات‭ ‬الدولية‭ ‬لممارسة‭ ‬دور‭ ‬أوسع‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ .‬وكما‭ ‬أشير‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬كانت‭ ‬إدارة‭ ‬الثقافة‭ ‬تتجه‭ ‬نحو‭ ‬تسطيح‭ ‬الأمور‭ ‬وجمعها‭ ‬باتجاه‭ ‬‭(‬التوثين‭)‬‭ ‬استعداداً‭ ‬لحملة‭ ‬1979‭ ‬المعروفة‭ ‬بتصفية‭ ‬الكادر‭ ‬القيادي‭ ‬والمتقدم‭ ‬وإعلان‭ ‬الخصومة‭ ‬مع‭ ‬الشيوعيين‭ ‬والديمقراطيين‭ ‬والأكراد‭.‬

‮ ‬‭ ‬ولهذا‭ ‬عندما‭ ‬يكتب‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم‭ ‬في‭ ‬‭(‬موضوعات‭ ‬عن‭ ‬وحدة‭ ‬النشاط‭ ‬الأدبي‭ ‬والفكري‭ ‬والسياسي‭)‬‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬نصب‭ ‬عينيه‭ ‬احتمالات‭ ‬المحنة‭ .‬لكن‭ ‬ما‭ ‬شجعه‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬بوادر‭ ‬لملمة‭ ‬الكادر‭ ‬المتقدم‭ ‬لأفكاره‭ ‬باتجاه‭ ‬تحول‭ ‬فعلي‭ ‬كالذي‭ ‬تصوره‭ ‬عبدالخالق‭ ‬السامرائي‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬فيقول‭ ‬“إن‭ ‬علاقة‭ ‬النشاط‭ ‬الأدبي‭ ‬بالنشاطين‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬تقررها‭ ‬التفاعلات‭ ‬الخصبة‭ ‬لجوانب‭ ‬العملية‭ ‬الحياتية؛‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬علاقة‭ ‬مفتعلة‭ ‬أو‭ ‬افتراضية‭ .‬وابتداءً‭ ‬تجب‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬غنى‭ ‬الحياة‭ ‬هو‭ ‬الينبوع‭ ‬الذي‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬تدفقات‭ ‬متنوعة‭ ‬ولكن‭ ‬منسجمة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والسياسة‭ ‬والأدب،‭ ‬وفي‭ ‬كافة‭ ‬ضروب‭ ‬المعرفة”‭ ‬‭(‬راجع‭: ‬الحرية‭ ‬والثورة‭ ‬الناقصة،‭ ‬ص‭ ‬72‭)‬‭.‬

الثقافة‭ ‬والثورة

وعندما‭ ‬يتدارس‭ ‬قضية‭ ‬الثقافة‭ ‬والثورة‭ ‬يوافق‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الثورات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تلحق‭ ‬الأذى‭ ‬بالفن‭ ‬والأدب‭ ‬مستعيناً‭ ‬برأي‭ ‬تروتسكي،‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬“واحدة‭ ‬من‭ ‬النتائج‭ ‬المباشرة‭ ‬لأكتوبر‭ ‬موت‭ ‬الأدب،‭ ‬فقد‭ ‬صمت‭ ‬الشعر‭ ‬والأدباء”‭ ‬‭(‬استقصاءات‭ ‬نظرية‭ ‬عن‭ ‬طبقية‭ ‬الفن‭)‬‭ ‬في‭ ‬“منطلقات‭ ‬اشتراكية”،‭ ‬159‭.‬‭)‬‭ .‬وهو‭ ‬يفسر‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬جدلية‭ ‬الحرية‭ ‬والإبداع،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الحدث‭ ‬لوحده‭ .‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬“الإبداع‭ ‬في‭ ‬مضمون من‭ ‬مضامينه،‭ ‬هو‭ ‬الانبثاق‭ ‬الروحي‭ ‬للشخص‭ ‬المبدع،‭ ‬حيث‭ ‬تتجاوز‭ ‬الحرية‭ ‬الداخلية‭ ‬الحدود‭ ‬الموضعية‭ ‬للجسد،‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬عبقرية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لجمها”‭ .‬وهو‭ ‬إذ‭ ‬يستعيد‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عن‭ ‬غرامشي،‭ ‬يضيف‭ ‬“نعم،‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬ذات‭ ‬أصل‭ ‬جماعي،‭ ‬وذات‭ ‬مغزى‭ ‬اجتماعي‭ .‬إلاّ‭ ‬أن‭ ‬الأصل،‭ ‬والمغزى‭ ‬يتآلفان‭ ‬في‭ ‬سيرورة‭ ‬ذاتية،‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬عظيم‭ ‬من‭ ‬الحرية،‭ ‬هو‭ ‬قدر‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الروحية‭ ‬البليغة‭ ‬التي‭ ‬تجسد‭ ‬الصوت‭ ‬الخافي‭ ‬رغم‭ ‬عمومية‭ ‬الأساس‮»‬‭ ‬‭(‬المصدر‭ ‬السابق‭)‬‭.‬

ويحذر‭ ‬من‭ ‬تأليه‭ ‬المجتمع‭ ‬والطبقة‭ ‬في‭ ‬الفورات‭ ‬والطفرات‭ ‬الثورية،‭ ‬ويرى‭ ‬المثقف‭ ‬صمامة‭ ‬أمان‭ ‬محتملة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬مارس‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬لجم‭ ‬هذه‭ ‬الاندفاعة،‭ ‬لأن‭ ‬“حرية‭ ‬الفرد‭ ‬شرط‭ ‬حرية‭ ‬المجتمع،‭ ‬وحرية‭ ‬المجتمع‭ ‬شرط‭ ‬حرية‭ ‬الفرد‭ ‬حيث‭ ‬تشغل‭ ‬حرية‭ ‬الفرد‭ ‬موقعاً‭ ‬متميزاً‭ ‬أو‭ ‬أساسياً”‭ ‬‭(‬المصدر‭ ‬السابق‭)‬‭.‬

أما‭ ‬الصوت‭ ‬الخفي‭ ‬لدى‭ ‬عزيز‭ ‬مفكراً‭ ‬فهو‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يني‭ ‬يطالب‭ ‬بالحرية،‭ ‬وهو‭ ‬ذلك‭ ‬الصوت‭ ‬في‭ ‬قصته‭ ‬“محضر‭ ‬ناقص‭ ‬عن‭ ‬مقتل‭ ‬عصفور”،‭ ‬بين‭ ‬قصصه‭ ‬المجموعة‭ ‬في‭ ‬“الديك‭ ‬وقصص‭ ‬أخرى”‭ .‬والقصة‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬أن‭ ‬كاتبها‭ ‬يسعى‭ ‬لإتمامها‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬مسكونة‭ ‬بفكرة‭ ‬بسيطة‭ ‬“عندما‭ ‬يقتل‭ ‬البريء‭ ‬تقتل‭ ‬معه‭ ‬العصافير‭ ‬والورود‭ ‬والأشياء‭ ‬الجميلة”‭ ‬‭(‬“محضر‭ ‬ناقص‭ ‬عن‭ ‬مقتل‭ ‬عصفور”،‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم،‭ ‬الديك‭ ‬وقصص‭ ‬أخرى،‭ ‬ص‭ ‬225‭-‬240‭ .‬القاهرة‭: ‬الهيئة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة،‭ ‬1987‭)‬‭.‬

والصوت‭ ‬الخفي‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬سيظهر‭ ‬تباعاً‭ ‬ومنذ‭ ‬‭(‬ديالكتيك‭ ‬العلاقة‭ ‬المعقدة‭ ‬بين‭ ‬المادية‭ ‬والمثالية‭)‬‭ ‬ساعياً‭ ‬إلى‭ ‬تكوين‭ ‬رؤية‭ ‬صوفية‭ ‬تتعالى‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬لتكشف‭ ‬هناته‭ ‬ومحنة‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬وكارثة‭ ‬‭(‬التوثين‭)‬‭ .‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬التاريخ‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬التي‭ ‬ضمّنها‭ ‬كتبه‭ ‬التالية‭ ‬“محمد‭ ‬الحقيقة‭ ‬العظمى”،‭ ‬“علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭: ‬سلطة‭ ‬الحق”،‭ ‬“الحضارة‭ ‬والاغتراب”،‭ ‬“الاغتراب‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬الشريف‭ ‬الرضي”،‭ ‬“التصوف‭ ‬والالتزام‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬البياتي”،‭ ‬“الرصافي‭ ‬الخالد”،‭ ‬و”متصوفة‭ ‬بغداد”‭.‬