الاخبار الفنون والاداب متفرقات - غير مصنف

رحل حمدي قنديل… أمّة مهنّد باقية وتتمدّد

يوم أمس شيّعت مصر حمدي قنديل، من مسجد الرحمن الرحيم في القاهرة، بحضور زوجته الممثلة نجلاء فتحي، وحشد من النجوم والشخصيات. الاعلامي المصري الكبير غلبه المرض عن عمر يناهز الثانية والثمانين، بعدما ملأ الشاشات بحضوره الصاخب. وكان الشاهد المميز، منذ الخمسينيات، على مراحل وانعطافات سياسيّة مهمة، تناولها في مذكراته «عشت مرّتين». قدّم قنديل برامج شهيرة مثل «رئيس التحرير» و«قلم رصاص»، ودفع غالياً ثمن شجاعته ونزاهته، حتى استحق لقب أكثر اعلامي عربي «ممنوع من العرض». قنديل الناصريّ الهوى، بقيت عيناه، شاخصتين إلى فلسطين. وقلبه ينبض على ايقاع العروبة. وفي زمن الاستسلام والارتزاق والتبعيّة، تميّز بمواقفه الحاسمة من الصراع المصيري الذي تشهده المنطقة، فانحاز إلى المقاومة، ورأى في السيد حسن نصر الله «فارساً في زمن الانكسار».

مثلَكَ… كي نستحق موتنا!

لقاهرة | «يعرف رفاقي أنني قابض على قناعاتي حتى لو اشتعلت جمراً، لكنهم يعرفون جيداً أنني لا أميل إلى العراك، كما أنني ــــ من دون ادّعاء ــــ لا أودّ أو أعمد للإساءة إلى أحد، إلا إذا كان في قول الحقيقة ما يسيء». هكذا قال الإعلامي المصري حمدي قنديل (1936 ـــــ 2018) في مقدمة سيرته الذاتية «عشت مرتين» (دار الشروق ـــــ 2014)، وأخطأ قنديل في مقدمته؛ فالجميع، وليس رفاقه فقط، يعرفون أنه واحد من القلائل الذين قبضوا على الجمر في كل العصور، وظل محافظاً على استقلالية كلمته حتى ولو كلفته الجلوس في البيت.

مع منتصف ليل الخميس، أعلن عن وفاة صاحب «قلم رصاص» و«رئيس التحرير»، وهما أشهر برنامجين له، لكنهما ليسا كل تاريخه. فالمسيرة التي استمرت قرابة الـ 60 عاماً، بدأت مع الصحافة خلال الخمسينيات مع صحيفة «الإخلاص» المحلية. ثم التحق بكلية الطب حيث درس ثلاث سنوات، ثم خطفته نداهة الصحافة، فترك الطب ودرس الصحافة في كلية الآداب. ووجه له الصحافي المصري الشهير مصطفى قنديل دعوة للعمل كمحرر في مجلة «آخر ساعة»، ولبى الدعوة وكان مسؤولاً عن نشر رسائل القراء مقابل أجر شهري قدره 15 جنيهاً. وبعد إنهاء دراسته الجامعية في ستينيات القرن الماضي، عمل في صحيفة «أخبار اليوم».
ثم انتقل للعمل في التلفزيون المصري في بداية الستينيات وقدم على شاشته برنامجه الأول «أقوال الصحف» الذي استعرض فيه ما تتناوله الصحف، واستمر في تقديم البرنامج حتى عام 1969 عندما تم تعيينه مدير اتحاد الإذاعات العربية. وفي عام 1971 غادر منصبه احتجاجاً على تفتيش حكومي للموظفين التقنيين.
ومع ظهور الفضائيات، انتقل إلى فضائية art في برنامج «مع حمدي قنديل»، لكنه لم يستمر في هذا البرنامج سوى ثلاثة أشهر فقط حيث اختلف مع المديرين في القناة حول مقابلات كان مخططاً لها مع الرئيس الليبي (وقتها) معمر القذافي، وطارق عزيز (وزير الخارجية ونائب رئيس مجلس الوزراء في نظام صدام حسين ).
ثم ظهر في برنامج «رئيس التحرير» على القناة الفضائية المصرية، و«قلم رصاص» على قناة «دبي». لم تتحمله الدولتان بسبب مواقفه الصلبة، وآرائه الحاسمة التي ظهرت بقوة خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2003، إذ قررت الحكومة المصرية إيقاف برنامج «رئيس التحرير»، بعدما هاجم قنديل مواقف الحكومات العربية وصمتها على ما يحدث في فلسطين، فغادر قنديل مصر إلى الإمارات، تاركاً خلفه شعبية كبيرة واحتراماً من الجميع. في الإمارات، بدأ برنامجه «قلم رصاص» الذي استمر خمس سنوات، قبل أن يتم إيقافه كذلك من دون إبداء أسباب من جانب الإدارة هناك، لكن مواقف قنديل السياسية كانت هي السبب الوحيد لهذه المغادرة المفاجئة وإن لم تعلن الأسباب رسمياً.
مرة أخرى، قرر قنديل الرحيل، بينما تزداد شعبيته والاحترام الذي كنّه الجمهور له، فانتقل إلى قناة الليبية، حث قدّم برنامجاً لمدة شهرين قبل أن تعمد الحكومة الليبية الى إلغائه. وعاد ليطل من فضائية «التحرير» المصرية بعد ثورة 25 يناير 2011، التي كانت في هذه الفترة صوتاً للثوار في الميادين، وكان قنديل أحد هذه الأصوات العالية التي انتقدت بشدة موقف المجلس العسكري الحاكم وقتها، رغم ما في ذلك من خطورة على حياته وحريته.
معارك قنديل على شاشات التلفزيون لا تقل عن معاركه في الصحافة. كتب مقالات لصحف «المصري اليوم» و«الشروق» الخاصتين. وفي الأخيرة، أقام وزير الخارجية المصري حينها أحمد أبو الغيط (الأمين العام لجامعة الدول العربية حالياً) دعوى قضائية يتهم فيها قنديل بالتشهير به، رداً على عمود كتبه قنديل منتقداً السياسة الخارجية المصرية في أيار (مايو) 2010، ولولا الثورة التي أسقطت الدعوى، لحبس قنديل بهذه التهمة.
طوال هذه الرحلة، لم يخذل قنديل رفاقه ولا متابعيه، فكانت مواقفه واضحة وصارمة في نقد الأنظمة العربية ومواقفها، وخاصة تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والحرب في جنوب لبنان والمقاومة والاحتلال الأميركي للعراق 2003، وغيرها من المواقف التي كانت تظهر فيها المواقف «المائعة» للأنظمة العربية، وهو (قنديل) لم يستخدم الميوعة في ما يقدمه أبداً، بل كان واضحاً وحاسماً.

كان صاحب موقف ثابت وحاسم، وخصوصاً تجاه المقاومة وفلسطين

منذ اليوم الأول، انحاز لـ«ثورة يناير» التي يمكن اعتباره من الداعين لها. ففي عام 2010، اختير متحدثاً باسم «الجمعية الوطنية للتغيير» في مصر، التي كان من أبرز مؤسسيها محمد البرادعي المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو منصب تحيطه المخاطر، فمبارك ونظامه وإعلامه كان يعتبر البرادعي أخطر ما يهدد مشروعه في الاستمرار في الحكم أو توريث نجله جمال.
لأجل هذا، تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى سرداق عزاء كبير منذ الإعلان عن وفاة قنديل، وهذا نادراً ما يحدث مع العاملين في الإعلام والسياسة. فعادة تنفجر الانتقادات والشماتة في موت من يعملون في هذه المهنة ويشتغلون في السياسة. إلا أن الأمر مع قنديل كان مختلفاً حيث نعاه الجميع، متذكرين مواقفه الواضحة والثابتة التي لم تغيرها الأموال ولا التهديدات.
الطبيعي أن يرحل قنديل من دون أن تكرمه الأنظمة المصرية التي تعاقبت، لكنه نال جوائز عدة من مؤسسات وجهات أخرى، من بينها فوزه في أيار (مايو) عام 2013 بجائزة «شخصية العام الإعلامية» التي تمنحها جائزة الصحافة العربية.


اللورد الإنكليزي
رغم تنقّل الإعلامي حمدي قنديل بين العديد من الشاشات والمؤسسات الإعلامية، إلا أن حضوره على قناة «دبي» حيث قدّم برنامجه السياسي والاجتماعي «قلم رصاص» عام 2009، كان الأبرز في رحلته والأكثر انتشاراً خليجياً وعربياً. اللافت أن الإماراتيين لم يتحمّلوا ثقل المواقف السياسية التي كان يطلقها الراحل، فقد تسبّبت مواقفه الثابتة والداعمة لقضايا الأمة وإيمانه بالمقاومة وحس الثورة لديه، في متاعب كثيرة أدّت مراراً إلى توقيف «قلم رصاص» بعدما استمرّ قرابة خمس سنوات على الشاشة. قيل يومها إنّ أطرافاً سياسية تدخلت لإيقاف البرنامج. حتى إن الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك كان يشكو قنديل للمسؤولين الإماراتيين بشكل دائم. الراحل كان صلباً بمواقفه السياسية، وبعد عرض كل حلقة من «قلم رصاص»، كانت تنهال الاتصالات على مسؤولي القناة وحتى من رؤساء الدول. عمله التلفزيوني كان من الأكثر متابعة في تاريخ البرامج الإماراتية، وهذه الشهرة التي نالها الإعلامي المصري الراحل كانت حقيقية تعكس ميول الشارع العربي، وسبقت فورة السوشال ميديا. شكّل الراحل مع الإعلامي السعودي داود الشريان ثنائيّاً خاصاً وطريفاً، إذ ربطتهما علاقة صداقة قوية. كان يهتمّ بأناقة مظهره الخارجي، وشبّهه بعضهم بـ«اللورد الإنكليزي». علاقته مع نجلاء زوجته كانت علاقة شراكة بكل معنى الكلمة سياسياً وإنسانياً. كانا ثنائياً يتمتع بروح نكتة مصرية ساخرة حتى العظم.

«قلمٌ رصاص» لا يساوم